ثلاثة أفلام قصيرة عربية: جمالية اشتغال سينمائي

07 اغسطس 2024
"تصعيد" للتونسي حسام سْلولي: الصمت لغة أعمق من كل كلام (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الأفلام الثلاثة وتناولها للمثلية والتحول الجنسي**: ثلاثة أفلام عربية قصيرة من إنتاج 2023 تتناول موضوع المثلية والتحول الجنسي في سياق اجتماعي وديني محافظ، وهي "دماء كالماء"، "وذكرنا وأنثانا"، و"تصعيد".

- **الأسلوب السينمائي والتكثيف السردي**: تعتمد الأفلام على تكثيف سردي لالتقاط مشاعر وحالات اجتماعية، مع تجنب الثرثرة الكلامية والبصرية، وتباين في استخدام الحوار والصمت.

- **التحديات الاجتماعية والدينية**: تعكس الأفلام تحديات اجتماعية ودينية تواجه الشخصيات، مثل الاعتراف بالمثلية تحت التهديد، وصعوبة دفن المتحولين جنسياً وفق الطقوس الإسلامية، والتعبير عن العلاقات غير المعلنة.

 

ثلاثة أفلام قصيرة عربية، مُنتجة عام 2023، تحثّ على نقاشٍ يتناول مسألة أساسية: كيف تُصوَّر المثلية والتحوّل الجنسيّان في سينما منبثقة من عيشٍ عربي، بما فيه من تقاليد وتربية وسلوك، تلتقي كلّها في تشدّد ومحافَظَة دينيّين ـ اجتماعيّين؟

لكنّ الممارسة الجنسية، بأنواعها، غير ظاهرة، وهذا صالحٌ للأفلام الثلاثة، لأنّ الأهمّ كامنٌ في كشف وقائع أخرى، والسينما مُرادفٌ لتبيان تلك الوقائع، أو لبعضها على الأقلّ. مع أنّ الأفلام هذه تنبثق من المثلية والتحوّل الجنسيين، أولاً.

الأفلام تلك تعتمد تكثيفاً سردياً نواةً لنصٍّ واشتغال، وتلتقط حالات ومشاعر بسلاسة وتجريبٍ، وتكشف ما يعتمل في اجتماع وبيئة من تفكير إزاء المثلية والتحوّل الجنسيّين. المُرادف لهما كامنٌ في واقع سياسي أمني استخباراتي، تعانيه فلسطين المحتلّة (الفلسطيني "دماء كالماء" لديمة حمدان)، أو يعكس صداماً مع ثقافة حياتية يومية في اجتماعٍ منغلق على ذاته بشدّة (الأردني "وذكرنا وأنثانا" لأحمد اليسير)، أو يكتفي بتفكيك علاقاتٍ في حيّز مكاني ضيق (منزل أساساً، ومقهى لوقتٍ قليل للغاية)، مُنصرفاً إلى اختراق أعماق ذاتٍ وروح فرديّتين، بعيداً عن هواجس جماعية (التونسي "تصعيد" لحسام سْلولي).

سينمائياً، يجهد كلّ فيلمٍ في تحويل مدّته الزمنية إلى مساحة أوسع، في الجغرافيا والاجتماع والموروث، بالاعتماد على ذاك التكثيف الذي يحول دون ثرثرة كلامية وبصرية، مع أنّ الكلام نادرٌ للغاية في "تصعيد"، إلى حدّ الانعدام المطلق، في مقابل حضور طاغٍ له في "دماء كالماء"، من دون السقوطِ في فراغ الحكي، الذي (الحكي) يتلاءم ومناخاً ضاغطاً، يولّده الاحتلال الإسرائيلي، وانتماء الجماعة التي تُقاوِمُه إلى ثقافة محافظة. هذه الأخيرة فاعلة بقوة في "وذكرنا وأنثانا"، فالراحل شابٌ يتحوّل جنسياً إلى امرأة، فيعجز الوالدان (كامل الباشا وشفيقة التلّ) عن دفنه وفقاً للطقوس الإسلامية، لأنّ كلّ من يُطلَب منه غسل الراحل/الراحلة، يرفض بعنفٍ وتوتّر، ويُطلق شتائم مبطّنة وقاسية.

يضطرّ شادي (عطا الله طنّوس)، في "دماء كالماء"، إلى الاعتراف بمثليّته الجنسية أمام والديه (ربى بلال وأديب صفدي)، بعد انكشافها لضابط إسرائيلي (صوت جريس قبطي عبر الهاتف الجوّال، فالشخصية غير ظاهرة أمام الكاميرا أبداً) يحصل على شريط فيديو يُصوِّر فعلاً جنسياً بينه وبين حبيبه (هذا أيضاً غير ظاهر البتّة). فالضابط يُهدِّد بفضح شادي (شريط الفيديو) في الحارة كلّها، إذا لم يُخبره عن موعد عودة رائد (هو أيضاً لا يظهر نهائياً) إلى المدينة، وأم رائد (رائدة غزالة) مشتاقة إليه، فغيابه هذه المرة يطول.

 

 

لحظات الاعتراف واللاحق عليه مشغولة بسلاسة، غير خالية من غضب وتلميح إلى واقعٍ وحالة. فوالد شادي يمضي أعواماً في سجون إسرائيلية لمقاومته الاحتلال، ومحاولات ابتزازه فاشلة للغاية. أمّا البيئة فتقليدية، والمثلية الجنسية بالنسبة إليها عارٌ يتطلّب تحريماً. كلامٌ يُقال في لحظات الاعتراف واللاحق عليه تعكس مناخاً عامّاً، مع أنّ الأب، بعد طرده شادي من المنزل، يقول إنّه سيُساعده على الاختباء، بعد أنْ يصرخ في الضابط برفضه التام أي نوع من الابتزاز.

المثلية الجنسية، التي يُكشف عنها في "تصعيد" من دون مباشرة، بل بكثير من تلميح يليق بكيفية صُنع صورة سينمائية، تحضر عبر لقطات غير محصورة بها، فالعلاقة بين شاب وشابّة توحي بأنّهما إمّا متزوّجان وإمّا مكتفيان بعيشٍ مشترك في منزل واحد. هذا غير مهمّ، فالكاميرا (فاروق العريضي) تبغي معاينة بصرية لأربعة أفراد (إيمان غزواني وسليم الذيب وغسان طرابلسي وعيشاء عزّوز)، تتداخل حيواتهم، وتنفتح على علاقاتٍ تقول إنّ شيئاً ما غير سليم في يومياتهم، وإنّ لكلّ فردٍ رغبات غير مُعلنة مباشرة. أمّا الصمت، فأجمل تعبيرٍ عمّا يعتمل في نفسٍ وتفكير وانفعال، والتمثيل مُساعدٌ فعلي في جعله (الصمت) بوحاً صادقاً.

بعض الصمت ماثلٌ في سيرة والدين (وذكرنا وأنثانا)، يبحثان عمن يغسل جسد ابنهما/ابنتهما قبل دفنه. الأب طبيبٌ، والأم تتلو من حديثٍ نبوي (العنوان مأخوذٌ منه)، والحيرة غالبة، والقلق والغضب ينهشان الأب، والأم محتمية بنصّ ديني. لا أحد يقبل فعلاً يُفترض به أنْ يكون أساسياً قبل الدفن (غسل الجثمان). الأب نفسه غير قادر على ذلك، فالجثة أمامه لامرأة، وهذا غير مقبول، والمرأة ابناً له قبل تحوّله (الحلّ؟ سيتصرّف الأب كطبيب بما يُتيح له غسل الجثمان ودفنه). هذه لعنة، مُصوَّرة سينمائياً بشفافية وبساطة، غير مانعتين وضوح ثقل اللحظة وخطورتها وقسوتها.

خضوع "ماء كالدماء" لقسوة احتلالٍ إسرائيلي، يترافق مع حالة اجتماعية وثقافية ودينية طاغية في المجتمع الفلسطيني، يُنتج فيلماً (14 دقيقة و22 ثانية) يعاين أحوال بيئة وحياة وسلوكٍ وشعور، من دون أحكامٍ مسبقة، ومع اتقانٍ بصري لكيفية مواجهة الاحتلال أيضاً. والدا الراحل/الراحلة ("وذكرنا وأنثانا"، 11 دقيقة) يكشفان، بأداء تمثيلي متين الصُّنعة، واقعاً في بيئة منفضّة عن التحوّل الجنسي، فتكون الخاتمة متوافقة وانصياعهما إلى تلك البيئة، فمقاومتها صعبة، بل مستحيلة، والتقاليد المتوارثة مقبولة منهما، بشكلٍ أو بآخر. أمّا "تصعيد" (15 دقيقة)، فجمالية التمثيل فيه تقول كلّ المرغوب في قوله، من مسائل متعلّقة بحبّ وعلاقة وعيش.

المساهمون