تلسكوب جيمس ويب... الكون في لحظاته الأولى

19 مارس 2022
التُقطت صورة هذا النجم الأربعاء الماضي (ناسا)
+ الخط -

بكثير من عبارات الافتخار، نشرت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أول صورة للتلسكوب الذي بلغت كلفته 10 مليارات دولار. تلسكوب "جيمس ويب"، ويوصف بـ "هابل التالي" (The next Hubble)، استغرق إنجازه 20 عاماً، وهو مشروع تتعاون فيه "ناسا" مع وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية.

أطلق التلسكوب إلى الفضاء على متن صاروخ "أريان 5"، في ليلة الميلاد من عام 2021، من محطة إطلاق أوروبا لصواريخها في غويانا الفرنسية. الهدف، كما تقول "ناسا"، هو الوصول إلى أبعد من تلسكوب "هابل"، والنظر في الماضي من خلال قدرة التلسكوب العالية على التقاط الضوء في أحلك وأصغر النقاط في السماء، أملاً بنقل معلومات وصور جديدة عن الكون، واللحظات الأولى من عمر النجوم والمجرات.

يميز علماء الفلك النجم في الصورة الأولى التي نُشرت الأربعاء، باسم 2MASS J17554042+6551277، نجم ليس ذا أهمية خاصة، وإنما كان اختياره بغرض اختبار التلسكوب وتجهيز مرآته. فقبل ذلك، كانت الصورة التي التقطها التلسكوب ونشرتها "ناسا" قبل نحو شهر، تُظهر نجماً واحداً في 18 نقطة مضيئة ضبابية، كل منها هي صورة التقطتها المرايا السداسية الـ 18 على حدة، قبل رصها معاً في عملية تُسمى بـ "عملية المحاذاة"، لينتج عنها مرآة واحدة، يصل طول قطرها إلى نحو 6.5 أمتار. هذا يجعل مساحة جمع الضوء في مرآة "جيمس ويب" أكبر بستة أضعاف من مساحة جمع الضوء في مرآة "هابل".

هذه الأرقام والقياسات تعبّر عن قدرات "جيمس ويب" على "الرؤية" في الظلام الحالك التي تفوق إمكانات "هابل" بكثير. كما أنها تفسر حماسة علماء الفلك لما سيكشفه التلسكوب من صور فارقة، تحدث ثورة علمية، وتثير نشوة تضاهي تلك التي أحدثتها صورة لـ"هابل" عام 1995، مكنتنا من النظر في الماضي البعيد، فظهرت فيها آلاف المجرات في أزمنة مختلفة لأبعد من 12 مليار سنة ضوئية. كل ذلك ظهر أول مرة في صورة "الحقل فوق العميق" (eXtreme Deep Field). حينها، كانت مرآة "هابل" موجهة نحو بقعة حالكة في السماء تبدو للعين المجردة خالية من كل ضوء وأي نجوم.

التلسكوب الجديد مصمم لالتقاط الموجات الضوئية في نطاق الأشعة تحت الحمراء، وهي موجات مهمة في دراسة الفلك؛ لأن أغلب الضوء المرئي القادم من النجوم يتم امتصاصه من قبل الغبار المحيط، قبل أن يصل إلى الأرض أو إلى تلسكوب "هابل" المصمم لالتقاط موجات ضوئية في نطاق الأشعة المرئية.

حساسية "جيمس ويب" للأشعة تحت الحمراء تتطلب الحفاظ عليه بارداً، ومنع أي حرارة من حجب الأشعة المراد التقاطها. وهذه هي وظيفة "درع الشمس" الذي تبلغ مساحته مساحة ملعب تنس؛ فهو يحافظ على التلسكوب بارداً، ويحجب حرارة الأرض والشمس عنه.

تلسكوب "جيمس ويب" موجود اليوم على بعد 1.5 مليون كيلومتر عن الأرض، عند نقطة تسمى "نقطة لاغرانج الثانية"، وهي إحدى نقاط لاغرانج الخمس؛ حيث ينعدم عندها تأثير الجاذبية بسبب تعادل جاذبية الشمس والأرض في هذه النقاط، ما يعني أنه بوضع التلسكوب في "نقطة لاغرانج الثانية"، يمكن الحفاظ عليه على بعد ثابت عن الأرض، من دون الحاجة لاستهلاك الطاقة.

بالحديث عن تلسكوب "جيمس ويب"، يجدر الوقوف عند التسمية التي تبعث على الإحباط لدى البعض، كما هي عادة السياسة عندما تتقاطع مع العلوم. العديد من العلماء في الولايات المتحدة عارضوا التسمية المنسوبة إلى موظف الحكومة الأميركية جيمس إدوين ويب الذي شغل منصب المدير الثاني لـ"ناسا" بين عامي 1961 و1968، ما يعني أن ويب أدار "ناسا" في فترة عملها على برنامج "أبولو" الذي أُطلق لتنفيذ رؤية جون كينيدي بالوصول إلى القمر.

في الفترة نفسها أيضاً، كانت الحكومة الأميركية تنتهج سياسة قمع وإقصاء للمثليين جنسياً، شنت خلالها حملات للكشف عنهم في الدوائر الحكومية وطردهم من وظائفهم. عرفت هذه الحملات ضد المثليين جنسياً بـ "الذعر الأرجواني"، وامتدت منذ الخمسينيات حتى الحرب الباردة، على غرار "الذعر الأحمر" الذي تجدد في الفترة نفسها. حتى أن حملات الحكومة المناهضة للمثلية ربطت "الذعر الأرجواني" بـ "الذعر الأحمر"، وهاجمت المثليين بوصفهم متعاطفين أو متعاونين مع الشيوعية، ويشكلون خطراً على أمن الولايات المتحدة.

المعارضون للتسمية يرون أن جيمس ويب تبنى هذه السياسات ولم يعارضها، بل ساهم فيها بنقله لتقارير ومشاركته في اجتماعات حكومية ذات صلة بالسياسات المناهضة للمثلية. رفضت "ناسا" الاتهامات الموجهة ضد ويب، وأثير جدل حول عدم صحة اقتباسات مشينة نُسبت له من دون أدلة.

هذا بكل حال، لا يغير من التاريخ الأسود لسياسات القمع والعنصرية الأميركية، وصمت معاهد ووكالات العلوم تجاهها. بذلك، لم يكن ويب وحده صامتاً عن أو مشاركاً في تنفيذ القمع. لم تتحرك المؤسسات العلمية لمنع الكثير من أشكال الاضطهاد ضد النساء العالمات، أو العلماء من ذوي البشرة السوداء، ولم تكن العلوم معنية بتغيير السياسة، ولم يشأ العلماء الانشغال بغير العلم.

أما تلسكوب "هابل"؛ فمنسوب إلى عالم الفلك الأميركي إدوين هابل، المعروف بإنجازاته العلمية التي بينت توسع الكون. والواقع أن إنجازات هابل اعتمدت على عالمة الفلك هنريتا سوان ليفيت التي لم تكسب الشهرة ولا الفرصة التي استحقتها لمجرد كونها امرأة. لم يسمح لليفيت بأن تكون أكثر من "مساعدة"، وعلى الرغم من عدم السماح لها باستخدام التلسكوبات والمختبرات في مرصد كلية "هارفرد"، كما لم يكن مسموحاً للنساء عامة، إلا أن ليفيت ابتكرت طريقة لقياس المسافات بين الأرض والمجرات البعيدة، ساعدت هابل وغيره من العلماء في أبحاثهم الذين لم يعارضوا أو حتى يعترفوا باستغلال النساء.

المساهمون