تشهد الحركة السينمائية المغربيّة في زمن كورونا صمتاً رهيباً، يُخيّم على مؤسّسات فنية عدّة في البلد، بسبب تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، في زمن الحجر الصحّي، المفروض على الجميع منذ مارس/ آذار 2020.
هذا يستدعي تفكيراً عن واقع السينما المغربيّة الآن. فالحجر أصاب مهرجاناتها وعروضها وصالاتها وخطابها النقدي، بينما صالات سينمائية في فرنسا وغيرها تعتزم فتح قاعاتها، ومُتابعة الجديد السينمائيّ. لكنّ المغرب بَادَر، منذ أشهر، إلى فتح منصّات رقمية لمُشاهدة أعمال مغربيّة قديمة، تخدم مشروع الناقد أكثر من أيّ شيء آخر، وتُطوِّع مُشاهداته اليومية لأفلامٍ مغربيّة عدّة، غير مُتوفّرة في الأيام العادية قبل الحجر، وتدفعه إلى ابتكار مشروع نقدي يقوم على قراءات ودراسات ومقابلات وتأمّلات في جوهر السينما المغربيّة، أمام تبدّلات في المفاهيم والنظريات والتخييل والجماليات، التي ألمّت بها منذ نهاية الثمانينيات الماضية.
أسماء قليلة قدّمت إشارات على ضرورة مراجعة السجل النقدي، على ضوء المعطيات الجديدة التي وفّرتها منصّات إلكترونية. نقّاد عديدون أشادوا بالدور الذي لعبته هذه المنصّات أثناء مأساة كورونا، المؤثّرة بشكل كبير على معايير الذوق والفرجة بين الأفراد، ما يستدعي تأمّلاً سوسيولوجياً في طبيعة هذا الإبدال الفني الغنيّ، الذي لا مثيل له في تاريخ دور السينما. فالنقد مُطالبٌ بالتفكير في أسئلة كهذه، باتت مُلحّة بتناولها راهن السينما المغربيّة إزاء "عنف" إغلاق القاعات، وتقهقر الصناعة السينمائية، وتلاشي مشاريعها المتعلّقة بالسيناريوهات، وضياع هالتها في يوميّات الحجر، رغم أنّ هذه الخلوة ربما تُغيّر منسوب الرؤية قليلاً، وتُحرّر معالم سيناريوهات المغاربة، وتجعلهم يتريّثون في كتابة أفلامٍ بجودة عالية، والاستماع إلى أنين النصّ وشروخه، بغية سبر أعطابه ومزالقه، قبل تقديمه إلى أيّ جهة دعم، رسمية أو خاصة.
لكنْ، من جهة أخرى، تبدو الكتابة صعبة، كما يقول مخرجون عديدون، أمام تمادي يوميّات الحجر في البلد، ما يُجهِضُ كلّ حلمٍ، ويغدو كلّ مشروع سينمائيّ محض خرافة وهباء، أمام إغلاق أمكنة فنية وصالات سينمائية وتأجيل مهرجانات، كفضاءات وحيدة تنمو هذه المشاريع فيها، وتتحقّق المُشاهدة/ التواصل بين الجمهور والمخرج/ العمل السينمائي. لذا، يظلّ سؤال مصير القاعات السينمائية مطروحاً، ويُفزع مسؤولين عديدين عن قاعات سينمائية. فالسينما، بالنسبة إلى مسؤولين وقيّمين كثيرين على القطاع، تظلّ مجرّد مطلبٍ ثانويّ بعد توفير الخبز والماء، وهذا تُزكّيه سياسات الانبطاح والتريّث في التفكير في جوهر السينما المغربيّة الآن.
صحيحٌ أنّ وزارة الثقافة ساهمت، إلى حدّ ما، في تخصيص ميزانية لهذه القاعات السينمائية، لفكّ العزلة عنها، رغم أنّ قطاع الثقافة في المغرب أكثر المُتضرّرين من الوباء، بحكم الشرخ الكبير الذي أصاب السياحة، ومعها المآثر التاريخية، التي تُعدّ مورداً لقطاع الثقافة، جعل ميزانيتها هزيلة لدعم السينما وقنواتها. تساءل كثيرون عن مصير السينما في المغرب، فكلّ شيء مُعطّل: مشاريع أفلام ويوميّات تصوير، علماً أنّ تفاقم حالات كورونا، جعل مخرجين ومخرجات يؤجّلون أعمالهم السينمائية إلى أجل غير مُسمّى.
فكرة التأجيل المُستمرّ، التي تعتمدها مؤسّسات فنية كثيرة رغم جهودها المُتواضعة، لا تُضمر بحدّ ذاتها سوى العوز والعطب والشرخ والتفكّك، الذي تُعانيه الصناعة السينمائية المغربيّة. السينما، بمداخيلها السنوية ومُتخيّلها وإبداعاتها ودورها الكبير في تجميل حياتنا البائسة والرتيبة، تظلّ بنظرهم مطلباً ثانويّاً، يتحققّ أو يُفكّر به بعد توفير حاجات أساسية، كالمأكل والمشرب. هذا انعكس سلباً على صورة السينما في وسائل التواصل الاجتماعي، بين المخرجين والممثلين والنقّاد، والحديث عن السينما ومشاريعها وخطابها يَغيب عن نقاشاتهم، ويتّخذ في بعض تجلّياته طابعاً نوستالجياً، كالعودة إلى أفلام قديمة، وعرض صُوَر من لحظات التصوير، وذكر حكايات وطرائف تحصل في كواليس التصوير والإعداد، ما يُغذّي الشعور اليوم بأنّ السينما المغربيّة في وضعٍ صعب، تحتاج إلى ضخّ دماءٍ جديدة فيها، وفي وسائطها وقنواتها، لاستعادة الحظوة التي كانت لها قبل فرض الحجر، عندما كان الخطاب مُتأجّجاً عن السينما وعوالمها، تُزكّيه نقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي، بعد المُتعة البصرية التي حظي بها المغاربة في 3 أشهر من الحجر.
هذا يتزامن مع جهد "المركز السينمائي المغربي" في عرض الأفلام، وإعلانه مؤخّراً عن أفلامٍ روائية طويلة ووثائقية حظيت بدعمٍ مالي، بهدف بدء التخطيط والتحضير والتصوير. اختارت اللجنة، التي تترأّسها فاطمة الوكيلي، أفلام عبد الإله الجواهري ونوفل البزاوي ومحمد رؤوف الصباحي ويونس الركاب وياسمين بنكيران وزكريا الزهراني وعايدة سينا وصوفيا جمال علوي وفاتن جنان محمدي ومجيد السداتي ورشيد حمان وزروالي بوعنان وعبد العزيز العطار وفاطمة أكلاز وحكيم كباني والغالي غريميش ويوسف آيت منصور وبوبريك رحّال، وغيرهم. لكنّ التصوير ينبع من قناعات ذاتية، قبل أنْ تكون مؤسّساتية. فالتأجيل المخيّم على هذه الأفلام الجديدة يبدو كأنّه جرح وألم بسبب مرحلةٍ، يبدو للمرء أنّها لا تزال مُستمرّة ومُتفلّتة من المنطق، وعصيّة على الفهم والاستيعاب، وتجعل المخرجين يغوصون في صمت رهيب للتأمّل في طبيعة المرحلة، بدلاً من الجري وراء كتابة سينمائية مُستعجلة عن كورونا، علماً أن القاعات مغلقة، والمهرجانات المغربية لم تبدأ بعد.