استمع إلى الملخص
- السينما الوثائقية، مثل أعمال مايكل مور، أبدت اهتماماً أكبر بشخصية ترامب، بينما تتجنب السينما الروائية الاقتراب منه، ربما لأسباب اقتصادية أو سياسية أو خوفاً من ردود فعل مؤيديه.
- التحديات الاقتصادية في عهد ترامب قد تؤثر على صناعة السينما، ويبقى التساؤل حول موقف السينما الأميركية في حال فوزه بولاية ثانية.
في تاريخها، التفتت السينما الهوليوودية كثيراً إلى الشخصيات الغريبة، أو الاستعراضية، أو المُصابة بأمراض وإعاقات مختلفة، بصرف النظر عن واقعيّتها أو صدقيّتها، فالمهمّ توفّرها على صفات النجومية والغرابة، التي تجعلها جذّابة درامياً، وتشدّ انتباه أكبر شريحة من الجمهور في العالم. رصدت السينما الأميركية شخصيات مهمّة ومحورية في مجالات مختلفة، خاصة السياسية منها، انطلاقاً من دورها البارز محلياً أو دولياً، واستحالة تجاهلها أو تجاوز ما فعلته.
الغريب والمُدهش أنّ شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب ينطبق عليها السابق، بل أكثر. ومع هذا، لم ترصدها هوليوود وتتأمّلها وتُجسّدها درامياً، ولو في فيلمٍ سينمائي واحد. وهذا على غير عادتها. أسئلة كثيرة تحيط بسرّ العزوف العمديّ، المُلغز فعلياً. أيكون مردّ هذا المفاجأةَ المذهلة التي شكّلها نجاح ترامب، ودخوله البيت الأبيض لأوّل مرة، ثم جرى التعامل مع فترته بوصفها مرحلة كابوسية لا يتعيّن ذكرها، بل يجب نسيانها كلّها، كأنّها لم تمرّ في التاريخ الأميركي، ولن تتكرّر أبداً؟ أيضاً: في ضوء التناول السينمائي المتفاوت لأكثر من رئيس أميركي سابق، كجون كينيدي وريتشارد نيكسون وباراك أوباما، لارتباطهم بأحداثٍ مهمّة أو جسيمة في تاريخ أميركا والعالم، يتساءل المرء: ألم تمرّ أميركا والعالم بأحداثٍ خطرة، بل كارثية، في الفترة المنقضية لترامب؟ كيف لم تشغل وتجذب الأحداث الجسام التي مرت بها أميركا والعالم انتباه كتاب السيناريو والمخرجين والمنتجين في هوليوود؟
المثير للغرابة أكثر أنّه، بعد انقضاء فترته السابقة، وقع حدث جَللٌ شكّل مفارقة لعلّها الأخطر في التاريخ المعاصر لأميركا وللانتخابات الأميركية قاطبة: اقتحام الكابيتول، وانكشاف العالم على مدى الشرخ العميق الذي خلقه وغذّاه ترامب في المجتمع الأميركي. لكنّ السينما لم تستشعر الخطر، ولم يجذبها ويستفزّها ما حدث فتستغلّه، تجارياً أو فنياً. إجمالاً، لم يخطر ببال أحد أنّ هناك ما يستوجب القيام به سينمائياً، ولو لرصد وتسجيل، أو للتوعية من تكرار ما حدث. وبعيداً عن أيّ رسالة اجتماعية أو سياسية أو توعوية، هناك غرابة مريبة في عزوف الجميع عن الرصد الفني الخالص لهذه الشخصية المركّبة للغاية، ذات الجوانب السافرة والفريدة في تكوينها وشذوذها، وانعكاس هذا على حياتها، الشخصية والعامة، واستلهام جوانبها المتعدّدة في أنواع فيلمية، مختلفة درامياً ونفسياً وتشويقياً وسياسياً.
بعيداً عن التساؤلات المعلّقة، التي من دون إجابات، ضروريٌّ ذكر أنّ السينما الوثائقية أكثر انشغالاً، بعض الشيء، بشخصية ترامب، مقارنة بالسينما الروائية، رغم أنّ ما أنجز عنه لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. مايكل مور أكثر تصدّياً وتحذيراً بتناوله ترامب قبل انتخابه عام 2016 وبعده، وأكثر انشغالاً بالتوعية ضدّ أفكاره وتصرّفاته، وما يُشكّله سلوكه من خطر يُهدّد استقرار المجتمع الأميركي، إذْ صنع عنه "فهرنهايت 11/ 9" عام 2018، الأقوى والأهمّ وثائقياً. سبق ذلك "مايكل مور في أرض ترامب" (2016)، الذي انحاز فيه إلى هيلاري كلينتون ضده.
ما أنجزه مور وغيره من وثائقيات، رغم قلّتها، يفرض تساؤلاً (مُجدّداً) عن أسباب إحجام السينمائيين والاستديوهات عن الاقتراب من شخصية ترامب، وسلوكه وتصرّفاته الدرامية والميلودرامية والكوميدية والعبثية بامتياز. وبعيداً عن عزوف كتّاب السيناريو والمخرجين، ماذا عن الاستديوهات؟ ألهذا علاقة بحسابات رأس المال، أو المصالح السياسية، أو التوازنات المعهودة في هوليوود؟ أمْ أنّه مرتبط بالخشية من تصرّفات مؤيديه في الدوائر العليا والشارع؟ أله علاقة بالخوف من ملاحقات قضائية، لن يتوانى عنها هذا الصداميّ العنيف، وكتيبة المحامين الخاصة به؟
المُرجّح أنّ المسألة مرتبطة بالملاحقة القضائية، وبالخسارة المادية. معروفٌ أنّ "المتدرّب" (2024) للإيراني الدنماركي علي عباسي، الروائي الطويل الوحيد عنه، طاولته ومخرجه تهديدات عدّة، قبل عرضه العالمي الأول في مسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان كانّ، لأنّه اعتُبر تشويهاً لسمعة ترامب وتاريخه، ورغم أنّ أحداثه تتناول سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، المُواكبة للصعود الطموح والجامح لنجم العقارات الشاب آنذاك، تجنّبت شركات التوزيع والاستديوهات تسويقه وعرضه في سينماتها. أكان هذا متوقّعاً؟ هل تنبّأت استديوهات هوليوود بمصير أفلامٍ تقترب من الرجل؟
لعلّ مصير "المتدرّب" يكشف، إجابةً ربما، عن اللغز المُحيّر، المتعلّق بعزوف السينما الأميركية تحديداً عن تناول شخصية ترامب. فالعزوف، في الراهن، ربما يمتد أربع سنوات أخرى، إلى انتهاء فترة ولايته الثانية، أو ربما إلى وفاته. في أي حال، المؤكّد أنّ ما يشغل الجميع، أولاً وأخيراً، في أميركا وخارجها، بما فيها الاستديوهات وشركات التوزيع، ليس شخصية ترامب، بل الاقتصاد. فما من شيءٍ آخر يشغل ترامب وحكومته الفيدرالية، التي تتشكلّ الآن، سوى الماديّ والاقتصاديّ، أي ما يَزيد من تدفّق المال.
المال، أو الافتقار إليه، سيقسم الولايات المتحدة، أكثر من انقسامها الآن، في أمور عدّة. ربما تُسرّع الصعوبات الاقتصادية من تآكل دعم ترامب بين الفقراء والسود واللاتينيين الذين توسّموا خيراً في أنّ انتخابه سيقضي على التضخم والهجرة وغيرهما، وأنّه لنْ يمسّ الإنفاق الاجتماعي، وأنّه سيحلّ المشكلات المالية المستعصية لأميركا، ويجعلها عظيمة دائماً.
لكنْ، إنْ يبدأ ترامب بخفض عجز الميزانية والنفقات الاجتماعية تحديداً، فسيواجه عاصفة اجتماعية واحتجاجات، وسيتيح للديمقراطيين فرصةً لإطاحته، لو عمّت الفوضى والاحتجاجات المؤسّسات المالية، كالبورصة، وتكرّر تهديد المؤسّسات السيادية واقتحامها.
ارتباطاً بهذا السياق الاقتصادي القاتم، لا شكّ أنّ التضخم سيؤثّر على دخل المواطن الأميركي، وستتأثّر قطاعات عدّة، كالسينما طبعاً، فهذا مرتبطٌ بمستويات الدخل والدين وفرص الوظائف والتضخّم التي يعانيها المواطن المتردّد على صالات السينما. ولهذا تبعات متعلّقة بارتفاع النفقات والتكاليف والضرائب، وغيرها من متطلبات الإنتاج والتوزيع السينمائيّين. وربما تتضرّر الصناعة السينمائية كثيراً، في حال استفحال الأزمة محلياً أو عالمياً، وانخفاض قيمة الدولار. بينما يُمكن رؤية الأمور في ضوء أنّ ترامب رجل أعمال، وأنّه سيبذل جُلّ جهده لإنعاش الاقتصاد بكلّ السبل، المشروعة وغير المشروعة، وسيعمل على ضخّ الأموال في جيب المواطن الأميركي البسيط، ما سيكون له مردود إيجابي على السينما طبعاً.
يتساءل المرء مُجدّداً: هل ستظلّ السينما الأميركية، في الرئاسة الثانية لترامب، صامتة وعازفة ومتجاهلة وجوده وشخصيته وسلوكه وخطورته، أمْ أنّ صداماً ما سيحدث؟ خاصة إنْ يتدخّل الرجل في ما يتعلّق بما باتت هوليوود منفتحة عليه، ويعارضه هو بكلّ قوته، كقوانين حرية التحوّل الجنسي.