أرجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيقونة "الثالوث" لأندريه روبليف إلى الكنيسة الأرثوذكسية، بعد 94 عاماً من الاستيلاء عليها. وقع الحدث الدال ومتعدّد الأوجه في 15 مايو/ أيار 2023. صارت تلك الأيقونة مشهورة بشكل مدوٍّ، لأن المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي (1932 ـ 1986) صَوّر عن مبدعها فيلماً صنع مجده.
يحكي تاركوفسكي، في "أندريه روبليف" (1966)، حياة رسام راهب روسي في القرن الـ15. هكذا جَمَع بين هاجسيْه، الدين والفن. تَنَاوُل هذين الموضوعين، في عصر الواقعية الاشتراكية، خيانة لموسكو. كتب عن تحضيره في كتابه "نحت الزمن" (1986): "كنت معنياً بأنْ أستقصي طبيعة النبوغ الشعري للرسام الروسي العظيم. أردت استخدام روبليف كنموذج لسبر واستكشاف مسألة سيكولوجية الإبداع الفني، وتحليل ذهنية ووعي فنان أبدع كنوزاً روحية، ذات أهمية خالدة".
عُرض الفيلم في الدورة الـ22 (8 ـ 23 مايو/ أيار 1969) لمهرجان "كانّ" السينمائي (خارج المسابقة)، وصار أيقونة مرجعية لعشاق السينما. ما الذي يجعل حدثَ تسليم الأيقونة للكنيسة معبّراً عن المرحلة؟
دينياً، رُسمت الأيقونة في كنيسة، وبقيت فيها منذ القرن الـ15. يقول مؤرّخ الفن البريطاني جيري بروتون، في كتابه "عصر النهضة" (2005)، إنّ "للصورة تأثيراً ضخماً على الأميين، ولا سيما عند استخدامها لأغراض دينية". بعد 5 قرون، صادر جوزيف ستالين الأيقونة من الكنيسة، ووضعها في متحف، عام 1929. بعد 70 عاماً، سقط صنم فلاديمير لينين في موسكو، فقدّمت الكنيسة طلب استرجاع الأيقونة المقدّسة عام 1990. طالبت بإخراجها من المتحف، لتكون في مكانها المقدّس، حيث يتبرّك بها المؤمنون.
فنياً، كتب تاركوفسكي في كتابه نفسه: "هذه الأيقونة، هذا التذكار، يمكن أن يُرى بطريقة أو من زاوية أخرى". بالنسبة إلى المخرج، الأيقونة تعبّر عن سيكولوجية الإبداع الفني وكلفته.
بدأ "أندريه روبليف" بحلم وكابوس. بدأ بقروي صنع شيئاً كالمنطاد، وتسلّق كنيسة، وقفز ليُحلّق في الهواء كطائر. سقط ومات. كان الحلم أكبر من الإمكانات. في مشهد موالٍ، وقف كوميديّ أمام الفلاحين يسخر من كلّ شيء. حينها، يظهر الراهب أندريه روبليف وهو يتابع وصول جنود التتار مرتزقة القيصر، ليعتقلوا الكوميدي الذي تجرّأ على السخرية من الكنيسة والأمير والنبلاء. ثمن الضحك باهظٌ، مع كسر الآلة الموسيقية. هناك متابعة لثمن خطيئة الراهب نفسه. أندريه روبليف أول راهب فنان وقّع أيقونة باسمه. هذا سلوكٌ ممنوع، لأنّه يدلّ على الغرور. هذه علامة تمرّد. فعل التوقيع إعلاءٌ للذات المبدعة. في السرد الديني، الله وحده الخالق المبدع.
اشتغل الرسام الروسي الفرنسي المعاصر مارك شغال على تلك الأيقونة مراراً. كذلك رسم رسّامون روس وسلاف آخرون تلك اللوحة، من دون أنْ يصلوا إلى التأثير والمجد اللذين حقّقهما روبليف. ليس كلّ من حمل ريشة وإزميل نحاتاً، وليس كلّ من حمل كاميرا مخرجاً.
سياسياً، يستعيد الفيلم التاريخ العنيف لروسيا، الملتفّ على الرقابة. يُدين تاركوفسكي الحاضر الروسي بالتخفّي في حكاية من الماضي. اقتبس حياة الراهب المتمرّد بفنه، في زمن حكم ليونيد بريجنيف (1964 ـ 1982). صوّر فيلماً عن الدين، في زمن سطوة الشيوعية، التي تعتبر "الدين أفيون الشعوب". فيلم يذكّر بالأيقونة المرجعية المخفية في روسيا، في زمن "أيقونة المطرقة والمنجل" المبجّلة. هذا سلوك متمرّد ضد وضع الأيقونة والدين في المتحف. "أندريه روبليف" فيلم مؤسّس في تصوير السرد الديني في السينما. أي شجاعة فكرية وسياسية أدّت إلى عرقلة المسيرة الفنية لتاركوفسكي، ثم إلى نفيه؟ لولا شهرته، لأُعدِم كالبحار المتمرّد فاليري سابلين عام 1976. إعدام يذكّر بتمرّد البحارة في "المدرّعة بوتمكين" (1925) لسيرغي إيزنشتاين.
سينمائياً، يستعيد الفيلم تناغم الأسلوب والمحتوى في أيقونات الراهب، وفي أفلام المخرج. تستجيب الأيقونات لقوانين الإدراك الحسي لدى المؤمنين، كما تستجيب السينما لأحاسيس المتفرّجين. في كتابه المذكور، يشبه تاركوفسكي المتفرجَ، الذي يشتري تذكرة سينما، بالمؤمن الذي يشتري أيقونة. يقول إنّ المتفرج "بينما يشتري تذكرته، يبدو كما لو كان يلتمس سدّ النقص، أو إكمال الفجوات، في تجربته الخاصة، رامياً نفسه في بحث عن زمن مفقود"، سيستعيده بفضل السينما.
تلك الأيقونة رمز الأبدية، التي لا تشيخ. الأفلام العظيمة لا تشيخ. تقدّم للمشاهدين وصفات لقراءة التاريخ في أصعب مراحله. في تلك الأيقونة، تواصل الله مع إبراهيم العاقر، قائلاً إنّه سيكون له ولد. فيها رمزية هائلة بالنسبة إلى الكنيسة. مع ذلك، رفض الكرملين الطلب 33 عاماً. فجأة، قرّر بوتين إرجاع أقدس أيقونة إلى الكنيسة. المتحف مؤسّسة علمانية، والكنيسة مؤسّسة دينية. يبدو أنّ الأنظمة السياسية تحتاج إلى مزيدٍ من الشرعية الدينية في الأعوام المقبلة.
بعد ثلث قرن، استجاب القيصر الحالي لطلب الكنيسة الأرثوذكسية. يبدو أنّ بوتين في لحظة ضعف، بعد أكثر من عام بقليل على الهجوم على أوكرانيا (24 فبراير/ شباط 2022)، التي كسرتْ غطرسته بمساعدة الغرب. بدأ الهجوم بعد 3 أشهر من تصريح وليام بيرنز، مدير المخابرات الأميركية، بأنّه "يجب جعل بوتين يتألّم، ولا جدوى من انتظار جلوسه إلى طاولة المفاوضات".
وصلت الرسالة. من حسن الحظ لم تُكسَر أيقونة روبليف، كما كُسرت آلة موسيقى الفلّاح الكوميدي.