لماذا لم تتوقّف المخيّلة الإبداعية، خاصة في العصر الحديث، عن التنبؤ والتكهّن وطرح رؤى عن نهاية العالم، أو الكوارث الكونية المُهلِكَة للبشر، بصرف النظر عن تفاوت المستويات الفنية، أو نُضج المُعالجة، أو عمق الطرح؟ مثلاً، رواية "المنصّة" (1978)، للأميركي ستيفن كينغ، عن سلالة إنفلونزا، تقتل جميع سكّان العالم تقريباً. رواية "في بلاد الأشياء الأخيرة" (1987)، للأميركي بول أوستر، حيث احتضار الحياة، وانعدام أيّ أمل في مستقبل آتٍ. رواية "العمى" (1995)، للبرتغالي خوسيه ساراماغو، عن ذاك الفيروس الخطر الذي يُصيب البشر بالعمى.
سينمائياً، هناك مثلاً "12 قرداً" (1996)، للأميركي تييري غيليام، عن فيروس خطر يُهدّد البشر؛ و"ميلانكوليا" (2011)، للدنماركي لارس فون ترير، عن نهاية وشيكة لكوكب الأرض. أفلامٌ كثيرة تناولت ـ بأسلوب تشويقي جماهيري، أو فلسفي تأمّلي ـ انتهاء العالم، والفناء الوشيك للبشر.
عقب قراءة رواياتٍ كهذه، أو مُشاهدة أفلامٍ كتلك، وتأمّلها بإمعان، سلباً أو إيجاباً، يتمحور التفكير ليس على شطح المخرج أو شطط الكاتب بعيداً عن أي صلة بالواقع، بل على مُفارقةٍ تفوق الواقع دائماً. حتّى في أعمالٍ وصل الفنّ فيها إلى أقصى درجات الفانتازيا والجنون واللامنطق.
منذ الربع الأول من عام 2020، وما يحمله الرقم من دلالات تفاؤل أو غرابة أو صدفٍ، بات المرء راصداً هذه المفارقة على نحو جلي. إذْ عقب مُشاهدة فيلمٍ والعودة إلى الواقع، والانتقال من الخيال إلى الحقيقة، يدفع الواقع المُربِكُ والحقيقة المزلزلة إلى التساؤل: هل نحن في فيلمٍ سينمائيّ كابوسيّ فائق الشطط، أو أنّ ما نشهده في الواقع محض خيال غير مسبوق؟ إنْ يكن فيلماً، هل انتهى، أو ليس بعد؟ كيف ستكون النهاية، أو كلمة الختام؟ من سيكتبها: البشر أو الفيروس؟ أهي نهاية سعيدة أو تعيسة؟
هل نحن في فيلمٍ سينمائيّ كابوسيّ فائق الشطط، أو أنّ ما نشهده في الواقع محض خيال غير مسبوق؟
لندع جانباً التساؤل عن التكلفة والخسائر، والموتى والمصابين، وغيرها من تساؤلات، إذْ ليس بمقدور أحدٍ الإجابة، حتّى اللحظة. بَكَرَةُ الفيلم لا تزال تدور. العمل قيد التصوير. لا مونتاج يلوح في الأفق إلى الآن. باختصار، فيلم كورونا السخيف هذا، بمفرداته وتفاصيله وطوله المفرط، فاق كلّ خيال سينمائي وأدبي، منذ فجر التاريخ إلى اليوم. المثير للسخرية أنّه لو اقتُبِسَ كورونا بأبشع تفاصيله، سينمائياً أو أدبياً، لن يُثير دهشة قارئ أو مُشاهد. سيظلّ للواقع تفوّقه وجنونه وقسوته وغرابته وأصالته.
في النهاية، ستظلّ أسئلة كثيرة عالقة، إلى حينٍ، أو إلى الأبد، من دون إجابة. أترك المستعصي منها، وأحاول التركيز مع الأهمّ، مع ما يمسّني شخصياً، مُحاولاً إيجاد إجابات، أو التخطيط لأيّ شيء، كما جرت العادة. لكنْ، الإجابات كلّها تفشل، والتخطيط ينهار، كالسفر إلى أيّ مهرجان مقبل، إذْ يصعب التكهّن بالمقبل منها فعلاً، وبما لن يُلغى. أو ككيفية مُشاهدة أغلب وأهم إنتاجات العام، لتقييمها والكتابة عنها، وعدم السهو أو تفويت أحدها.
ارتباكات الجداول والخطط والعمل زاحمتها، أيضاً، أزمة جديدة، ظننتُها طارئاً عارضاً، تتعلّق بآلية المُشاهدة غير المُعتادة، أي عبر جهاز كمبيوتر أو شاشة منزلية. هذا لا يألفه بسهولة من اعتاد الحضور السينمائي في صالات العرض. ما فاقم الأمر أنّه، بعد تردّد مرةٍ على دار عرض، وحضور وجيز لمهرجان، اتّضح أنّ المشكلة أصعب وأعقد بكثير، إذْ يبدو أنّ التدابير الوقائية والاحترازية، ومنها ارتداء الكمّامة طوال العروض، ستلازمنا فترةً طويلة. ما يعني استحالة المُشاهدة في ظروفٍ طبيعية معتادة. ثمّ الانصياع، مؤقّتاً لقواعد المُشاهدة المنزلية، بكلّ ما فيها من سلبيات، أملاً في ألا تتحوّل السلبيات إلى إيجابيات، ويتكيّف المرء معها، وتصير مُحبَّبة إلى النفس.
بعد خروجنا من آخر عروض "مهرجان برلين السينمائي" (فبراير/مارس 2020)، أكّدت لصديقٍ، بيقين جازم، استحالة الذهاب إلى "مهرجان تسالونيكي الوثائقي"، بعد أسبوعين، لضيق الوقت وصعوبة الوضع والخوف من تأجيلٍ يلوح. أردفتُ، مُشاكساً إياه بشبه يقينٍ تدعمه سلبية وتشاؤماً روَاقييّن يتلبّساني من حين إلى آخر، إننا لن نتقابل قريباً، حتّى في مهرجان "كانّ" السينمائي المقبل (مايو/أيار 2020)، الذي كنّا نستعدّ له بحماسة فاترة (ترتيبات السفر والإقامة والسكن)، قبل أيام قليلة مع الأصدقاء. لم أكنْ أقرأ الغيب، ولا أتكهّن بالمستقبل. فقط، وضعتُ بعض المفردات إلى جوار بعضها، وخرجت بهذا الاستنتاج المُفرط في التشاؤم، والصعب على النفس والعقل، وبدأت أهيّئ نفسي له.
لكنْ، حقيقةً، حتّى بعد إعلان إلغاء "مهرجان تسالونيكي" وغيره من مهرجانات سابقة على "كانّ"، لم يكن يقيني راسخاً، إذْ ظلّ الأملُ يحدوني في تكرار حضور اعتيادي روتيني لـ"كانّ"، ولو في لحظاته الأخيرة، وإنْ بنسخةٍ مُختَصرة وباهتة، ومهما كانت التكلفة. بعد إلغاء "كانّ"، أُلغِيَ "مهرجان كارلوفي فاري"، فساد الارتباك، وطغت الحيرة، وتملّكني الغضب، وخيَّم يأس، وانفلش تبرّم. لم يكن مبعث هذا كلّه سينمائيا خالصاً، بل خليطاً يصعب تحليله، مزيجاً متناقضاً بين شعور بالارتياح لمُمارسة راحة قسرية وكسل لذيذ، بعد سنوات من التعب والإرهاق جرّاء السفر والمطارات والطائرات والمُشاهدات المُفرطة في كثافتها، والكتابة المستمرة (بصرف النظر عن جودتها وقيمتها ودورها الحقيقي والفعلي)؛ والحلم بالسفر في الوقت نفسه، والتوق إلى التردّد على الأماكن نفسها، ومعانقة القاعات، والجلوس في حضرة أصدقاء وأحبّاء ومعارف ممن يُعدّون من "الأسرة السينمائية الكبيرة"، وإنْ كانوا مجرّد وجوهٍ مألوفة، يعتاد المرء رؤيتها من بعيد في المهرجانات.
بعد أسابيع ضبابية، بدأت تنجلي بعض أبعاد الصورة. الرؤية السابقة مُفرِطة بالتشاؤم، ومع اقتراب فصل الصيف، اتّضح أنّها كانت محض تفاؤل وردي، إذْ تجاوز الأمر إلغاء المهرجانات، والشلل الضارب أركان الصناعة، والتوقّف عن التحليق آلاف الكيلومترات، وكسر روتين اعتاده المرء. الحياة نفسها ميتة، لا مُعطّلة فقط. تحوّلت شوارع أكبر المدن الأوروبية إلى دروب أشباح. ليست الصالات فقط، أو المتاحف والمكتبات والملاعب والمطارات، أو حتّى المستشفيات. ندمتُ أكثر من مرّة لجهلي التصوير السينمائي، وعدم امتلاكي معدّات لازمة للتسجيل، لرصد ما رأته عيناي في أشهرِ حظرٍ طويلة، بدت دهرية، في شوارع أوروبية، لم تخفت بهجتها يوماً.
المفارقة القديمة / الحديثة بين الواقع والخيال، وُضِعَت على المحكّ مُجدّداً بفعل كورونا
لاحقاً، عقب السماح بفتح جزئي بعد أشهر الحظر تلك، ورؤية بشر من لحم ودم، وشوارع ووسائل مواصلات، وبعد انهمار دموع لا إرادية حزناً على ما آلت إليه الأحوال، غبَطتُ نفسي على جهلي بما يمتّ بالتصوير السينمائي بصلة. فرحت لعدم توفّر أدوات التصوير اللازمة معي، إذْ باتت الرغبة الوحيدة، عقب ذلك النهار الأبدي، تحثّني على نسيان كلّ ما رأيتُ، والقيام بمونتاجٍ له. فالصورة أبشع من أن تُرصَد، من دون أيّ مُبالغة.
أزعم أنّي قرأتُ وشاهدتُ الكثير: كتب تاريخ، وصور فوتوغرافية، وأفلام وثائقية. حتّى حكايات الأهل والأقارب والأصدقاء، ممن عاشوا حروباً وتهجيراً وخنادق وثوراتٍ وخوفاً ورعباً، وعرفوا نقص المال والغذاء، وأهوالاً أخرى كثيرة. لكنّ عيش الواقع الكورونيّ، على كافة الأصعدة، ليس كغيره إطلاقاً. ومهما كانت عظمة الفنّ وصدقه وأصالته واحتلابه الواقع والوقائع، شتّان بينه وبين الحقيقة. تلك المفارقة، القديمة/ الحديثة، بين الواقع والخيال، وُضِعَت على المحكّ مُجدّداً، بفعل كورونا. أقلّه، بالنسبة إليّ.