في منطقتنا العربية بإمكان الجميع ممارسة الضحك. لكن، هل بإمكان الجميع ممارسة السخرية؟ والمقصود بالممارسة هو ممارسة الإضحاك، كما في عروض الستاند أب كوميدي، وبعض البرامج ذات الطابع المضحك.
هذا متوفر لدينا. لكن ممارسة السخرية، أي أن تتجاوز الإضحاك إلى السخرية، أن تجعل من أي شيء، مهما كانت قيمته العاطفية والأسرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والدينية، مادة للتهكم والضحك، فهذه الممارسة غير متوفرة. ببساطة، لأنها غير ممكنة في ظل سيطرة الأنظمة الرقابية والقمعية، وتسيّد الأمزجة السياسية، وسطوة المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، إلى جانب حدّة الطباع الاجتماعية السائدة التي ترى أن الضحك قد يكون إحراجاً في غير أوقاته.
في مثل هذه الظروف، تكثر عروض الهرج والمرج "الكوميدية"، انطلاقاً من هرج ومرج الوضع الحالي/ المحلي الذي نعيشه. وفي الوقت نفسه، تنبثق نوعية برامج "ساخرة"، جديدة بالنسبة لنا، مثل "البرنامج"، الذي كان يعتمد على تصيد مواقف محرجة لسياسيين، ويقتنص تناقضات خطاباتهم، وهفوات المذيعين. تتخلله بعض العروض والأغاني الناقدة، إلى أن جاء السيسي وتوقّف "البرنامج".
بعيداً عن كل الضوضاء، كانت هناك تجربة لافتة، وناضجة سياسياً، ومتمكنة معرفياً، وهي تجربة "أخ كبير"، التي تمكن فيها محمد قنديل (أو أنديل كما يفضّل صاحب الاسم)، من تقديم شخصية "كلامها غير ملزم". كانت شخصية في غاية الأهمية، لحاجتنا إلى "السَسّتَمة" بشكل دوري. لكن البرنامج توقف. واستمر أنديل في تقديم بعض العروض الخاصة.
بهذا المعنى، ومع هذا الانحسار في نوعية العروض، يمكننا القول: نحن نضحك محلياً. ولكننا لا نسخر محلياً. كيف ذلك؟
بالإمكان الضحك مع طفل، لكن مرفوض هو الضحك على الطفل في موقف محرج. بهذا، فإن الضحك مع مسموح، بعكس الضحك على. والضحك على تعني السخرية على حالاتنا بأي وقت، والتهكم من أنفسنا، والضحك على كل ما هو مألوف وسائد. إنها بمثابة منظار ساخر، نطلُّ به على أنفسنا الجدية.
في المقابل، نحن نضحك على الطفل، لكن عندما يكون خارج حدودنا الأخلاقية والسياسية والدينية والجغرافية، لذا، فنحن نَضحك على طفل غريب، لا يخصنا. كما أننا نضحك مع امرأة تروي موقفاً ساخراً حدث لها أثناء "دورتها الشهرية"، مثلاً، أمام آلاف الأشخاص، طالما أن هذا يحصل خارج حدودنا.
تقتصر السخرية عندنا على امتلاك الحكايا والأمثال الشعبية، والأفكار الشائعة، لمجتمع ما، أو مدينة ما، أو شعب ما، والسخرية من تلك الأفكار، والعادات، من دون الاقتراب من الحدود.
لكن، أن نشاهد عرضاً ما يسخر من كل شيء، ينتقد كل شيء، يتهكم من أي شيء يريده، خارج حدودنا، فهو أمر مضحك. مثل أي عرض ستاند أب كوميدي توفره منصات المشاهدة على الإنترنت، فيها ما فيها من كلام وأوصاف وتجاوزات وتهكمات، لا مكان لها على أي مسرح عربي.
ربما قد تفيدنا تجربة كيفن هارت، إذ سيحل ضيفاً في مصر خلال الشهر المقبل، لنرى ما هي المواقف الساخرة التي سيجرؤ على تقديمها. فهو من الشخصيات التي تمتلئ لها الميادين والمسارح الكبيرة، وهو من الشخصيات التي تستعير مادتها التي تقدمها من تفاصيل حياتها اليومية، وحياتها الخاصة جدا، وتغوص في شؤونها النفسية والجسدية والجنسية، وتعبر عنها بألفاظ تعتبر عندنا "مسيئة". وكل شيء عندها، يصبح تاريخاً يصلح لأن يروى نكتةً، أو تهكماً.
لكن، من المتوقع أن تكون مفردات كيفن تدور حول ما حدث معه خلال رحلته، والمطار، واتهامات العنصرية، والأهرامات، ومحمد صلاح. لا "بيضَ" هنا، ولا عنصرية ضد السود. وهذا يعتبر نقطة ضعف ليست في صالح كيفن، فهو يبني عليها كثيرا في بقية عروضه.
بالحديث عن كيفن هارت، رغم جمهوره، وعروضه المضحكة، لكنه ليس من الطراز الذي يضحي بعمله لإضحاك الجمهور. بعبارة أخرى، إنه ليس شخصية بحجم الأميركي الراحل جورج كارلين (1937 - 2008).
خسر كارلين عمله أكثر من مرة، سواء بسبب تجاوزاته في ما يقدمه، أو لعدم التزامه بشروط المنظمين. كيف لا، وهو يعد أول من تلفظ بسبع كلمات، تعتبر "مسيئة"، في عرض له أمام كاميرا التلفزيون، عام 1972، وهي "مسيئة"، لدرجة لا يمكن كتابتها هنا. إلا أنها في سياق العرض، كانت مضحكة، في صلب التهكم من أقوال مألوفة لدينا، لكن عندما نقولها بصوت عال، تصبح محرمة، مثل كلمة "قضيب".
نتساءل: هل يوجد، اليوم، من هو مولع بالسخرية إلى حد الاحتراق؟