بيروت عشية "كأس العالم الـ22": عتمةٌ تنتظر ضوءَ ملعبٍ أخضر

02 نوفمبر 2022
ديفيد بيكهام: مثال أعلى لشخصية سينمائية (شون باتريل/Allsport/Getty)
+ الخط -

 

أيامٌ قليلة قبل أنْ تبدأ الدورة الـ22 لكأس العالم في كرة القدم (20 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 18 ديسمبر/كانون الأول 2022)، المُقامة في قطر. أيامٌ بيروتية غارقةٌ في عتمةٍ وقهرٍ وخراب، وباحثةٌ عن ثقبٍ في جدار لتنفّسٍ شبه طبيعي على الأقلّ، وساعيةٌ إلى خلاصٍ من موتٍ يتناسل لحظةً تلو أخرى، ومن عنفٍ غير عاجزٍ عن ابتكار أشكالٍ جديدة له في كلّ وقتٍ. تحضيراتٌ عادية في مقاهٍ ومطاعم وحاناتٍ، تبغي لقاءات لمتابعة مباريات مُنتظرة منذ 4 أعوامٍ، رغم أنّ كثيرين/كثيرات يتابعون كأس أوروبا، وبطولة "نادي النوادي"، ومباريات محلية وإقليمية. غير أنّ لكأس العالم نكهةً مختلفة، والشوقُ إلى مبارياتها أعمق من أنْ يوصف بكلماتٍ.

في أزقّة صغيرة، تتفرّع من شارع الحمرا في بيروت، يُراد لتلك الكأس أنْ تحلّ في يومياتٍ وسهراتٍ، فالكلام عن كلّ مباراة غير منتهٍ مع انتهائها، إذْ يستمرّ ساعاتٍ طويلة بين أصدقاء ومعارف وروّادٍ دائمين لتلك المقاهي والمطاعم والحانات، رغم اهتمامٍ يزداد حدّة من مباراة إلى أخرى، تُرافق (الحدّة) منتخباً دون آخر. الأمكنة البيروتية تلك منشغلةٌ في إيجاد حيّز لرفاهية المُتابعة، مع أنّ فاتورة الاشتراك التلفزيوني للمُشاهدة مرتفعةٌ، كما يتردّد. هذا ينسحب على فواتير المأكل والمشرب، المرتفعة أصلاً في مدينةٍ رازحةٍ في انهيار اقتصادي، جرّاء أكبر عملية نصبٍ تجري وقائعها في أعوامٍ متتالية، وتنكشف عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) المعطّلة.

والتحضيرات ـ إذْ تبدو عاديةً في زمنٍ لبنانيّ غير عادي، وإزاء رياضة موصوفة بكونها الأكثر شعبية في العالم ـ غير مترافقةٍ، أقلّه إلى الآن، مع كلامٍ عنها بين روّاد مقاهٍ ومطاعم وحانات. فهؤلاء منصرفون إلى تكرارٍ مملّ عن واقعٍ مأسويّ، يُضاف إليه شيءٌ كثيرٌ من تعليقاتٍ وسجالاتٍ معنيّة بنهاية فترة رئاسة الجنرال ميشال عون للجمهورية اللبنانية، منتصف ليل 30 ـ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، رغم مغادرته القصر الجمهوري قبل يومٍ واحد تقريباً على الموعد المنتظر. منذ 4 أعوامٍ، يُعلن كثيرون/كثيرات عن حماسةٍ وشغفٍ وتوتّر مقبول، قبل أسابيع مديدة من بدء النسخة الـ21 (14 يونيو/حزيران ـ 15 يوليو/تموز 2018) لكأس العالم في روسيا. حينها، تتأجّج الأزمة الاقتصادية بصمتٍ، فالانفجار مؤجّل قليلاً.

السؤال الآنيّ مطروحٌ، وإنْ بخفرٍ: "أي منتخبٌ ستُشجِّع هذه المرّة؟". هذا يتناقض كلّياً مع علاقةٍ، يُفترض بها أنْ تكون دائمة، بين فردٍ ومنتخب. فالفرد غير مُتخلٍّ عن منتخبٍ بين دورة وأخرى، تماماً كعدم تخلّيه عن فريقٍ/نادٍ في بلدٍ، أو ربما عن أكثر من فريق/نادٍ، فالمباريات المنضوية في أطر أخرى غير كأس العالم تُتيح للفرد تشجيعاً ومرافقةً لأكثر من فريق، أحياناً. في كأس العالم، يستحيل تبديل منتخبٍ بآخر، بين نسخة وأخرى. لذا، يُفرَّغ السؤال من محتواه، بإجابةٍ تكون، أحياناً، حادّة، كتلك الحدّة التي تسم سلوك المشجّعين/المشجّعات جميعهم، في ارتباطاتهم الوثيقة بهذا المنتخب أو بذاك.

هذا كلّه سابقٌ على بداية نسخةٍ جديدة لكأس العالم، تُقام في لحظةٍ تاريخية خطرة، فالحرب الروسية ـ الأوكرانية مستمرّة في تدمير وقتل، كما في تغيير أنماط حياة وعيشٍ وعلاقات. العالم مُقيم في انهياراتٍ وتحوّلات قاتلة. أزمات وخوف وانقلابات غير صالحةٍ لتقدّم وتطوّر مُفيدين. قراءة مشهدٍ بيروتيّ، عشية بدء تلك النسخة، متأتية من حالةٍ مزرية لبلدٍ وناسٍ، غير مسبوقة في التاريخ المرير لـ"دولة لبنان الكبير" (1 سبتمبر/أيلول 1920). فالمدينة تائهةٌ بين مفترقات، أخفّها سوءاً يتمثّل بوقفٍ مؤقّت لمزيدٍ من الانهيارات. فهل تكون "كأس العالم الـ22" متنفّساً، ولو من دون جدوى دائمة؟ أيكون الملعب الأخضر ضوءاً في عتمة خانقة، وإنْ من دون إنهائها؟

كلّ كلامٍ عن كأس العالم، وعن المنتخبات واللاعبين والتفاصيل، سابقاً والآن، غير معنيّ بسينما (روائية، تحليلية، مذكّرات، سِيَر حياتية)، تتناول تلك الرياضة الشعبية ونجومها/أبطالها، كما رياضات أخرى ونجومها/أبطالها، بأساليب وهواجس مختلفة، تتناقض في ما بينها أحياناً، إنْ تكن المادة المختارة واحدةٌ في أكثر من فيلمٍ. مُشجّعو/مُشجّعات منتخبات وفرق ولاعبين غير مكترثين البتّة بمقاربات، سينمائية وأدبية وفكرية واقتصادية واجتماعية ونفسية، للرياضة ونجومها/أبطالها، في مقابل اهتمامٍ أكبر وأعمق بكواليس تلك الرياضة، وصناعتها واقتصادها، وبما في تلك الكواليس من فسادٍ ونزاعات وصدامات وعَفَنٍ.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

السينما، كما الكتب، معنيةٌ أحياناً بتلك الكواليس، ومنشغلةٌ بعالم كرة القدم، وبتأثيراته النفسية والاجتماعية والانفعالية في لاعبين ومُشجّعين/مُشجّعات. الروائي في السينما مفتوحٌ على الأسئلة كلّها، والفضائح كلّها، والمشاعر كلّها. الوثائقي منشغلٌ بكشف مخفيّ أو أكثر، أو بإعادة ترتيب المُصوَّر والمُسجَّل في توليفٍ يعكس قولاً لصانعه. تجربة البريطاني أسيف كاباديا ماثلةٌ بقوة. اختياره مرحلة نابولي في السيرة الحياتية/الرياضية للأرجنتيني دييغو مارادونا (1960 ـ 2020)، في "دييغو مارادونا" (وثائقي، 2019)، مقتَطِفاً من مئات الساعات المُصوّرة/المُسجّلة ما يُعيد تشكيل تلك السيرة وفقاً لرؤيته، يعكس (الاختيار) واقعاً يُعاد التذكير به، خاصة في كيفية تمكّن اللاعب من إنهاض فريق نابولي من خرابه، وفي علاقاته بالمافيا النابوليتانية، ما يدفع مارادونا إلى التقدّم بدعوى قضائية ضد الفيلم وصانعه.

"العبيها مثل بيكهام" (ترجمة عربية للعنوان الفرنسي، بينما العنوان الإنكليزي يقول Bend It Like Beckham)، للبريطانية الهندية الأصل غُريندر تشادا، يحتفل، عام 2022، بالذكرى الـ20 لإنجازه. لحظةٌ تسبق موعد النسخة الـ22 لكأس العالم، وتستعيد شيئاً من العلاقة المتينة بين فردٍ ولاعبٍ مُفضَّل له. ديفيد بيكهام لاعب إنكليزي، سيكون المثال الوحيد لجسْماندر "جِسْ" بامرا (بارْمِندر ناغرا)، المختلفة عن صديقاتها اللواتي يُفكّرن بالزواج، انسجاماً مع التقاليد المتّبعة في بيئتهنّ، بينما تنصرف هي إلى كرة القدم، ساعية إلى احتراف الرياضة، وجاهدةً في التماهي ببيكهام، مثالها الأعلى. التفاصيل اليومية في سيرتها كافيةٌ لتبيان ما يعتمل في ذاتها وروحها من مشاعر ورغبات، ولكشف محيطٍ اجتماعي بطقوسه وانشغالاته. فيلمُ يُستعاد، من دون تناسي ذاك الكَمّ الهائل من الأفلام المعنية بكرة القدم.

أزقّة بيروتية تفتقد، إلى الآن، أعلام دول لها منتخبات وطنية في "كأس العالم الـ22". هذا غير حاصلٍ سابقاً. المواجهات السابقة في مقاهٍ ومطاعم وحانات بين روّادها تنتظر لحظة إطلاق صفّارة البداية، بعد 18 يوماً. لكنّ السابق عليها يميل إلى نوعٍ من لامبالاة، أو ربما هذا ما يوحيه مشهد بيروتيّ غارقٌ في العتمة والانكسار والخراب.

السينما في لبنان بعيدةٌ عن تلك الرياضة، وعن لاعبيها، رغم عصبيّة جماهيرية لهذا الفريق أو ذاك، ورغم نجوم فيها يستحقّون أكثر من فيلمٍ، وأكثر من مقاربة.

الكتابة عن السينما وكرة القدم ممتعةٌ. مُشاهدة أفلامٍ كثيرة، عن كرة القدم تحديداً، مُثيرة لمتعٍ مختلفة أيضاً، ومُشاهدة مباريات متنوّعة لكرة القدم تُنتج، بدورها، متعاً أخرى، مجبولة بغضبٍ وتوتّر ونشوة وحدّة وعنفٍ. السابق محاولة لتبيان شيءٍ من يوميات مدينةٍ، غير متمكّنةٍ من خروجٍ لها من جحيمٍ، موعودةٌ به زمن عهدٍ رئاسيّ، سيبقى الأسوأ والأعنف والأكثر وقاحةً وترهيباً في تاريخ البلد.

المساهمون