بعد هدوء طويل ناجم عن جائحة كورونا، ازدحمت دار كريستيز من جديد، يوم الإثنين الماضي، في نيويورك، إذ كان من المتوقع بيع بورتريه لمارلين مونرو، أنجزه فنان البوب الأميركي آندي وارهول عام 1964، تحت عنوان Shot Sage Blue Marilyn، بقيمة تصل إلى 200 مليون دولار.
لم تخب التقديرات إلا قليلًا، إذ بيعت اللوحة التي رسمها وارهول، بعد سنتين من رحيل أيقونة الولايات المتحدة، بـ195.04 مليون دولار، لصاحب العرض الفائز لاري غاغوسيان، تاجر الأعمال الفنية الذي امتلك اللوحة ذاتها، قبل أن يبيعها عام 1986 إلى صاحبيها السابقين توماس ودوريس أمّان، من دون أن يتضح ما إذا كان غاغوسيان قد اشترى اللوحة لعرضها في إحدى صالاته العديدة، أو نيابة عن أحد عملائه المجهولين.
لم تفصح دار كريستيز ولا المشتري عن معلومات أكثر حول عملية الشراء، على أن تذهب إيرادات المزاد العلني لصالح جمعية خيرية للأطفال، تحمل اسم مؤسسة أمّان.
ومع أن البورتريه فشل في تجاوز رقم البيع القياسي للوحة سالفاتور موندي، التي نسبت إلى ليوناردو دافينشي في مزاد عام 2017، لكنه تصدر القائمة، ليغدو أغلى عمل فني أميركي بيع على الإطلاق، وأغلى عمل فني من القرن العشرين، متجاوزًا في سعره لوحة بابلو بيكاسو Les Femmes d’Alger، التي بيعت عام 2015. تصدُّر جاء بعد حملة دعائية طويلة نظمتها دار كريستيز لجذب الاهتمام نحو إرث وارهول، بما في ذلك عرض اللوحة على واجهة مقرها الرئيسي في روكفلر.
WATCH: Pop artist Andy Warhol's famed 1964 silk-screen portrait of Marilyn Monroe, ‘Shot Sage Blue Marilyn,’ sold for $195 million total at an auction in New York https://t.co/7vjfwLuCUa pic.twitter.com/3LBDGbFBCN
— Reuters (@Reuters) May 14, 2022
زادت الاعتبارات التاريخية من قيمة البورتريه المادية؛ فبعيدًا عن كونه واحدًا من أكثر الأعمال الفنية تأثيرًا على ثقافة القرن العشرين البصرية، تركز لوحة وارهول على وجه البوب الأكثر شهرة في أميركا، وتتضمن في بنائها فنًا أدائيًا قدمته دوروثي بودبر، في إحدى زياراتها لاستديو وارهول، حين أطلقت النار على قماشة اللوحة، لتصيب جبهة مارلين المرسومة، وتترك ندبة خفية على اللوحة، وما تكدس خلفها من قماش. ما زال لغز تلك الطلقة غير مفهوم حتى اليوم، إذ يشاع أن بودبر طلبت إذن وارهول في إطلاق النار على اللوحة مستخدمًا كلمة Shoot، وسمح لها الأخير بذلك، معتقدًا أنها تقصد تصويرها. بينما يرجح آخرون أن الحادثة بأكملها مُمسرحة، وذات هدف أدائي ينطلق من التلاعب اللفظي.
لا شك أننا أمام سؤالين؛ أحدهما اقتصادي والآخر أخلاقي، وكلاهما يحاول إيجاد الغاية أو الفائدة العامة التي تنتج عن بيع لوحة فنية وفق سعر باهظ كهذا؛ إذ أعاد المزاد فتح النقاش غير المنتهي حول العلاقة المعقدة والمتغيرة بين الفن و"الاقتصاد الإبداعي" كما درجت تسميته حديثًا.
السوق، من وجهة نظر معظم منتقدي ظاهرة المزاد الفني، يؤدي إلى تسليع أو حتى عبودية الفن. وكذلك، فإن "الصناعة الثقافية"، وفقًا لمدرسة فرانكفورت، يمكن اعتبارها نظامًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا شاملًا، ينتج وينشر منتجات ثقافية موحدة، تهدف إلى تلبية الاحتياجات التي يخلقها النظام نفسه، ويشجع المستهلكين على الامتثال للمعايير السائدة. بعبارة أخرى، يغدو الفن أصيلًا فقط إذا ما استطاع الهروب من السوق، أما "الفنان الأصيل"، كما يقدمه أدورنو، فهو من يستمر في ابتكار القطع الفنية، حتى عندما لا يستطيع بيعها.
وتُقابَل وجهة النظر الجذرية تلك، بأخرى أكثر براغماتية، تعتبر الفن جزءًا لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية، وتؤكد على الدور المركزي للسوق في عملية الاستقلال الذاتي للفنون، وتخليصها من تبعية الدين والسلطات. المثال الأشهر على ذلك النهج، يقدمه نوربيرت إلياس، في كتابه "علم اجتماع العبقري"، وفيه يصف كيف مكنت اشتراكات الحفلات الموسيقية موزارت الشاب من تجاوز إملاءات طبقة النبلاء ومعاييرهم.
قد لا يختلف كثيرون حول ضرورة الدعم الاقتصادي للفنون بشكل عام، وممارسيها الشباب خاصة، حتى يتمكنوا من الاستمرار في تقديم أعمال فنية مهمة، أو ربما ببساطة تأمين عيشهم خلال أوقات عملهم. لكن الخلاف الأشد، يكمن حول "تسعير" العمل الفني، وإخضاعه لمعايير السلعة من ناحية، وجذب مجموعة أكبر من الفنانين اليافعين لتقديم إنتاجات "مسعرة" مسبقًا، لتتطابق مع معايير السوق من ناحية ثانية، وهو بالضبط ما حدث منذ أيام قليلة فقط، حين أعلن لاري غاغوسيان، مشتري بورتريه مارلين ذاته، تمثيله للرسامة الشابة آنا ويانت (27 عامًا)، لتغدو أصغر فنانة يتعاقد معها جامع التحف الثري. ومن المتوقع أن تجلب أعمالها في وقت لاحق من هذا الشهر ما لا يقل عن 100 ألف دولار أميركي في المزاد العلني لنيويورك. إلى من يوجه الفن في هذه الحالة؟ وهل سيتمكن مشتر، ذو دخل محدود، من امتلاك لوحة للفنانة الشابة يومًا؟ أم أن فكرة امتلاك لوحة مجرد سطر آخر في قائمة "البعيد عن المنال"، وفق هرم الاقتصاد الرأسمالي السائد.
لا يحمل تسعير الأعمال الفنية، خاصة وفق تلك الأسعار الباهظة، خطر تشويه المقاربات الفنية الشابة فحسب، بل ينطوي على احتمالات ممكنة لغسل الأموال والتهرب الضريبي، ويلعب دورًا أساسيًا في تشكيل ذائقة الجمهور، والتلاعب الصريح بها، فمن المرجح أن يكتسب العمل المباع بسعر باهظ رأسمالا رمزيا، ومكانة لا يمكن دحضها بسهولة، تكتسب شرعيتها من قيمتها "المقدسة"، ماديًا وتاريخيًا، بوصفها القطعة الأكثر تفوقًا على مثيلاتها؛ أي أن المعايير الجمالية في حد ذاتها لن تخضع إلا لـ"سطوة" العمل الفني، واعتباره معيارًا يجب إما تجاوزه، أو الاحتذاء به.
قد يتساءل بعض من محبي فن وارهول عما سيكون موقف الفنان البديل اليوم، لو أنه كان شاهدًا على بيع لوحته بسعر يقارب إنفاق دولة ما على أحد قطاعاتها. من المرجح أنه سيردد عبارته الشهيرة: "كسب المال فن"، والتي غدت شعارًا يرفعه مشجعو تغلغل الاستراتيجيات التجارية عبر الفنون، وتوثيق الروابط بين ريادة الأعمال والفن، مقتبسين عن آندي وارهول نهجه المستمر لتمكين الفنانين البصريين ومؤسساتهم، لبناء أعمال إبداعية ومالية، تتحدى وضعهم الاقتصادي الراهن؛ فلسفة وصلت إلى ذروتها مع إنجاز وارهول عمله الفني الشهير، في أوائل الستينيات من القرن الماضي، بتصوير أوراق نقدية من فئة الدولار وإكمالها عام 1981، عبر سلسلة من الرسومات واللوحات لعلامة الدولار.
قد يكون "المال جميلًا"، وفق كلمات وارهول نفسه، لكنه فشل حتى الآن في الاحتفاظ بقيمته الثابتة عبر العصور، وهذا بالضبط ما يميز تحف الفن.