بودكاست الجريمة: صوت العدالة من خلف الميكروفونات

07 مارس 2023
تستفيد هذه البرامج من المحاضر والبيانات والتقارير الصحافية (تيموثي إيه. كلاري/فرانس برس)
+ الخط -

شهدت السنوات الأخيرة نجاحًا واسعًا للمدونات الصوتية (بودكاست)، بعدما تحولت منصاته الصاعدة إلى محل لتعزيز المناصرة في مجالات النسوية والصحة النفسية والقضايا الحقوقية، خاصة للباحثات والباحثين عن وسائل أكثر إشراكًا وتفاعلية مع متلقي المحتوى. تبرز من بين تلك التجارب المثمرة للبودكاست برامج البث الصوتي التي تسعى إلى إحقاق العدالة الاجتماعية، عبر ما بات يعرف باسم "مسلسلات الجريمة الحقيقية" التي يقدم مجملها مدخلًا بسيطًا لعلم الجريمة، أو يعيد فتح دعاوى طوتها المحاكم منذ زمن بعيد.

يهتم كتّاب بودكاست الجريمة بمن لم يعد يهتم بهم أحد، فيبحثون عن القضايا ذات النهايات المحبِطة، ويكتشفون فيها أدلة جديدة أغفلتها الشرطة، أو بقيت مغمورة حتى انتهاء المحاكمة، ما يؤدي إلى اعتقال مشتبه بهم جدد، أو إلغاء الإدانات القديمة، آخرها كان حين أسقط المدّعون العامون في بالتيمور التهم الموجهة إلى عدنان سيد، بعد أن أمضى 23 عامًا في السجن، بتهمة قتل زميلته في المدرسة الثانوية هاي مين لي عام 1999. حظيت قضية عدنان سيد باهتمام واسع على إثر البودكاست الذي غطى قضيته عام 2014، وتتالت بعده البرامج الصوتية ذات التأثير الواسع على مجرى العدالة، ومنها The Jinx، وIn the Dark، و?Who Killed Malcolm X.

بفضل تلك البرامج وأخرى غيرها، اتخذت من البودكاست وسيلة للتواصل مع الجماهير، أصبحت الصناعات الترفيهية ونظم العدالة الجنائية أكثر تداخلًا بعضها مع بعض من أي وقت مضى، يبدو فيها المؤلف محققًا بقدر كونه صحافيًا، ويعمل بشكل تقاطعي وعلى أصعدة مختلفة، ويغدو المتلقي قاضيًا يضرب بمطرقته الافتراضية، فيخترق الصمت المطبق ويزعزع الحقائق الثابتة.

تستفيد تلك البرامج الصوتية من السجلات والمحاضر والبيانات والتقارير الصحافية والإذاعية وغيرها من المواد الموثوقة ضمن إطار عرضها، وتسعى من خلالها إلى التأثير على الرأي العام وتطويعه، لكنها تتميز أيضًا بعنصر درامي يضاف على المواد المستمدة من الواقع، محققة مزجًا جديدًا بين الصحافة الاستقصائية والفنون الترفيهية، في نهج مشابه لذاك المتبع في المسرح التحريضي التسجيلي الذي اعتاد دمج الفن بالحقائق.

أما الصوت، وهو ميزة أخرى تصب في صالح البودكاست، فقادر على اختراق الحدود بين ما هو متخيل وما هو حقيقي، ويلعب دورًا حسيًا مهمًا في صهر الحدود بين المستمع والراوي، فضلًا عن أنه يفوق في أثره أثر التغطيات المكتوبة والمتلفزة، خصوصًا في تتبع إجراءات قاعات المحاكم، وشرح طبيعة القوانين، وغيرها من المشاهد غير المثيرة بصريًا.

يغدو البودكاست طرفًا ثالثًا في معادلة طرفاها الأساسيان هما الشرطة والعامة، مستغلًا العلاقة الوطيدة التي تبنى بين مضيفي البودكاست ومستمعيه لجرهم إلى لعب دور المحقق وحال اللغز. فيساعد المتلقون في حل القضية عبر رسائلهم ومكالماتهم، وينجحون في سد ثغرات فشل النظام القضائي في مواجهتها. تؤثر محاورات البودكاست على هيئة المحلفين وعناوين الصحف، بقدر تأثيرها على المجتمع المحلي، كما أنها غالبًا ما تجد طريقها إلى قلب محكمة القضاء، خالقة فرصة جديدة لإعادة النظر في القضايا الجنائية.

يدخل البودكاست في صلب النقاش الأوسع حول العدالة الجنائية أيضًا، أي أن استنتاجات برامجه لا تنقذ المتهمين من أحكام تعسفية فحسب، بل تساهم بشكل مباشر في خط التشريعات والنظم والقوانين الجديدة، ومنها يتعلق بقوانين الأدلة المأخوذ بها في المحاكمات، لكن دورها الرئيسي يكمن في دحض الروايات الرسمية، إذ يكشف البودكاست عن مكامن الفشل الإجرائي، ويسلط الضوء على الفساد المحتمل أو إساءة استخدام السلطة، موضحًا دور المواقف المجتمعية في تعزيز الحكم الخاطئ. سعيه للكشف عن الحقيقة يحارب ثقافة القلق التي تغذيها سرديات تنتجها وتدعمها وتروج لها الأنظمة، ويحقق العدالة "التعبيرية"، إن لم تكن القضائية، من خلال تخليد ذكرى الضحايا والشهادات والشهود.

تنطلق برامج البودكاست من رؤية معاصرة لصناعة الرأي العام؛ يكفي أن تلفت انتباه شخص واحد لقضية ما، حتى تنتقل عدواها إلى آلاف وملايين من الأشخاص المهتمين، إذ غالبًا ما تغطي ملفات البودكاست قصصًا نقصت إجاباتها، أو خذلتها العدالة الاجتماعية، وباتت الآن في أمس الحاجة للدعم العام و"إثارة الجدل". لم تكن تلك الاستراتيجية لتنجح لو أنها لم تبن على رغبة شعبية جلية للانخراط في الشأن العام، تعبر عن نفسها قبل البودكاست عبر الإعلام المعاصر ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل "يوتيوب" و"فيسبوك" و"تويتر"، وغيرها من الوسائط الجديدة والجذابة التي يمكن الوصول إليها مجانًا، وإنتاجها من دون الحاجة لاستديوهات ضخمة أو معدات مكلفة.

تشكل آليات إنتاج بودكاست الجريمة عنصر جذب للباحثين عن منصات بلا وساطة شركات الإنتاج التي تختار المحتوى وتقيده وتسيسه في غالب الأحيان. في بودكاست Ear Hustle، يُسمح لمرتكبي الجرائم بالتعبير عن أنفسهم عبر برامج بث صوتية تصدر من داخل سجن ولاية سان كوينتين. يقدم ذلك البث الفريد من نوعه (المستمر منذ عام 2017) آراء مختلفة عن "الجريمة" وفاعليها، و"يحكي صورة" مغايرة عن حياة السجن ورفقاء الزنزانة وغيرها من القصص التي يرويها المساجين بأنفسهم ومن دون رقابة.

لا تؤثر تلك الممارسات على العدالة كما تعرّفها الدولة فحسب، بل تساهم في تخريب هيمنة "الجريمة التلفزيونية"، خيالية كانت أم وثائقية، مستغلة مساحات التوسط البديلة عبر الإنترنت بما تتيحه من وسائل تشهير ووسم و"فضح" للأحكام الخاطئة والحكام المخطئين، وتلك وسائل يكثر الاتكال عليها في مجتمعات اليقظة المعاصرة.

في ذلك المجتمع الحذر ذاته، تكتسب مسلسلات البودكاست موثوقيتها من كونها تُبث عبر وسيلة إعلامية ترفيهية، لا إخبارية "مشكوك فيها"، وفق ما تراه كاثلين دونوفان، وهي باحثة في أثر الثقافة الشعبية على فهم الجماهير للجريمة. تشرح دونوفان أنه من الأسهل لنا أن نثق بفنون الثقافة الشعبية لأننا نشعر بأن "هدفها هو المتعة فحسب، وليس إقناع الجماهير بأيديولوجيا معينة".

وفي حين تشكل تلك الخاصية الترفيهية للبودكاست واحدة من نقاط قوته، إلا أنها تمثل خاصرته الأضعف في آن، إذ أوضح استطلاع أجرته شركة بويلينغ أند هَل عام 2018، أن البودكاست يُنظر إليه في المقام الأول على أنه مصدر ترفيهي بدلًا من كونه منصة للدعوة أو العدالة أو الإصلاح أو المحادثة المشتركة. أما دفاعه المستميت عن قضاياه، فيضع القائمين على صناعته في مصاف المناصرين وليس الصحافيين، ينجزون مهامهم على حساب المعايير الصحافية الموضوعية أحيانًا.

تحسم النتائج الإيجابية التي يحققها بودكاست الجريمة الجدل. معدلات مشاهداته المتزايدة باستمرار تشير إلى أن ذلك النوع الوافد لن يبارح مكانه قريبًا، خاصة أنه يصارع البرامج الحوارية على مكانتها وينتزع من الراديو ما تبقى من شعبيته ويغدو وسيطًا بين قضاة العدالة ومتلقيها، محولًا اهتمام المستمعين إلى فعل.

المساهمون