"بعد الشمس": توظيفٌ بارع للتفاصيل العادية

01 فبراير 2023
هل تنجح الإجازة في تمتين العلاقة بين أبٍ وابنته؟ (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أحياناً كثيرة، يكون للتذكّر واجترار الذكريات تأثيرٌ بالغ علينا، ربما أكبر من تأثير الحاضر نفسه، خاصة عندما نُمعن النظر في ذكرياتنا، أو في لحظات معيّنة مع الأحباء، أو عندما تجبرنا الذاكرة على استدعاء غائبين أو مفقودين أو راحلين، وعلى تمثّل تجاربنا معهم. عندئذ، نكتشف، من بين أمور كثيرة، أنّنا نجهلهم، أو بتنا نعرفهم بشكل أفضل من قبل.

عن الذاكرة والذكريات، واستدعاء الماضي بحلوّه ومُرّه، يتمحور "بعد الشمس" (2022)، الرقيق والمؤثّر، للاسكتلندية شارلوت وَلْس (1987).

رغم أنّه أول روائي طويل لها، برهن "بعد الشمس" على ذكاء واحترافية وخبرة. إنّه مُغامرة أسلوبية متقنة جداً، تستحقّ الاهتمام والرصد. أحداثه تحصل في سبعينيات القرن الماضي: يسافر كالوم (بول ميسكال)، الشاب الثلاثينيّ الوسيم، وابنته صوفي (فرانكي كوريو)، البالغة 11 عاماً، إلى تركيا، لتمضية عطلة صيفية قصيرة. الواضح أنّ كالوم منفصلٌ عن والدة صوفي، وأنّه انتقل إلى إنكلترا للعيش والعمل، بينما بقيت صوفي ووالدتها في اسكتلندا. الرحلة فرصة نادرة لأبٍ وابنته كي يكونا معاً، فيقترب أحدهما من الآخر، في محاولة للتواصل والتفاهم، وخلق لغة حوار.

صوفي ذكية نسبة إلى عمرها. لكنّها لا تزال طفلةً إلى حدّ كبير. إنّها تقترب من المُراهقة، لذا فهي تتأرجح بين الطفولة والاندفاع نحو النضج. تتحرّك عيناها وحواسها دائماً. تتفحّص محيطها، وتستكشفه بهدوء وفضول وعقلانية. تمضي عطلتها مُمزّقة بين التسكّع مع الأطفال الصغار في المنتجع، أو المراهقين الأكثر صخباً، حول طاولة بلياردو، أو حمّام سباحة. أحياناً، تتشاجر مع كالوم، فتتوتّر الأعصاب. توجّه له كلمات قاسية. تفشل في التواصل معه، وفهمه. تشعر بالملل والسخافة. أحياناً أخرى، لا يتبادلان كلمة، أو تمضي الأمور بسهولة وبساطة وحميمية ونضج. هناك رغبة قوية لديها في أن تُظهر لوالدها أنّها تحبّه، لكنّها لا تعرف تماماً كيف. تلتقط صُوراً فوتوغرافية له، أو تُسجّل فيديو. عندما أخبرها أنّه لا يريد أنْ يُصوَّر، أجابته أنّها ستُسجّله في الكاميرا الذهنية الصغيرة الخاصة بها، بدلاً من ذلك. لكن، كلّ لقطات الفيديو في العالم لا يمكن أن تمنحها إجابات تحتاج إليها.

بالنسبة إلى كالوم، يبدو أنّ هدوءه الخارجي يخفي قلقاً وتوتّراً وأسئلة، منها: ماذا يحدث للمرء عندما يُصبح أبّاً قبل أن يكون مستعدّاً فعلياً لذلك؟ يتعجّب قائلاً: "لا أستطيع تخيُّلَ نفسي في الأربعين من عمري. لكنّي فوجئت أنّي بلغتُ الثلاثين". تحمل ملامحه الصبيانية اضطراباً مكبوتاً. لا يُعرف الكثير عن تفاصيل حياته. شارلوت وَلْس ليست ممن يُفسد حبكة فيلمٍ بحوارات توضيحية. لكن، يُستَنْتَج أن كالوم تعرّض لضربات قاسية كثيرة، واتّخذ قرارات سيئة في ماضيه، وربما في حاضره. المؤكّد أنّه قلق بشأن المال؛ والواضح بقوّة أنّه يُصاب بلحظات انفصال مُفاجئ عن الواقع. رغم كلّ هذا، والكآبة الكامنة فيه، يهدف كالوم إلى تحسين ذاته، وعلاقته بالآخرين، وابنته تحديداً، عبر قراءة كتب التأمّل، وفنون الـ"تاي تشي"، التي يؤدّي بعض حركاتها أحياناً.

باستثناء حبّه الملموس لابنته، يحتفظ كالوم بمشاعره في داخله. هناك تساؤلات بشأن صحته العقلية، وحالته النفسية، وهواجسه، ومشاعره المكبوتة. أمور أبرزتها وَلْس ببراعة وصدق، من دون افتعال ومبالغة، عبر تصويرها الاضطرابين العقلي والنفسي، المخفيّين، لدى "الأشخاص العاديين"، الذين يعتبرون أنفسهم كذلك. ونراهم نحن على هذا النحو، ونحسبهم أسوياء، وفي منتهى الرجاحة والاتزان.

الأحداث الدرامية بسيطة للغاية في "بعد الشمس". تجربة سعيدة، غالباً، بين أب وابنته، في منتجع على الساحل التركي: رحلات غطس استكشافية، مطاعم الفندق، ساعات استرخاء إلى جانب المسبح، وضع "كريمات" على بشرتيهما، بعد نهاية يوم طويل ومرهق من السباحة، والتعرّض للشمس. أيضاً: طائرات شراعية في السماء، تسكّع حول حمّامات السباحة، تمدّد تحت المظلاّت الشمسية، دردشات عابثة، مُراقبة فضولية مختلسة للمحيطين بهما، غناء ورقص، إلخ. بمهارةٍ ملحوظة، تخلق وَلْس إيقاعاً وأجواء مذهلة، من خلال مفردات البيئة البسيطة هذه.

 

 

لا يُراكم الفيلم إثارة أو دراما أو تشويقاً، بقدر ما يُراكم تفاصيل ومشاعر. مجرّد تفاصيل يومية عادية متوقّعة. مع ذلك، هناك غموضٌ، يزداد ويُفجّر المشاعر والذكريات والأسئلة، بعد إدراكنا أنّ ما نشاهده محض استدعاء لتلك الصباحات المشمسة، قبل 20 عاماً، من جانب صوفي، التي تبلغ 31 عاماً الآن (سيليا رولسون هول). ذكريات صوفي ليست سوى شظايا مُتفرّقة، تحاول استعادتها، وتأمّل تفاصيلها، عبر لقطات الفيديو المنزلي. تستكشف ذاتها ووالدها عبر أشياء بسيطة، لم تكن تفهمها حقاً، حينها.

هل تُشاهَد هذه الأحداث كما كانت فعلاً، أو كما تتذكّرها صوفي وكاميرتها؟ هذا التوتّر بين الحقيقة والخيال، بين الأحداث المسجلة والمتذكَّرة، يدفع إلى عمق الدراما. هذا يدفع إلى فحص كلّ إطار، كأنّنا نبحث عن أدلة لحقيقة مخفية، وألغاز عصية. شارلوت وَلْس نسجت حبكتها بحيث تُروى القصّة الفعلية، وأحداث كثيرة، خارج الكادر. لذا، هناك حدسٌ بأنّ الوقت المشترك بين صوفي وكالوم يمثّل نهاية شيءٍ ما لا نعرفه، حصل بعد انتهاء العطلة. الإشارة إلى الموت تُخيِّم على الفيلم. أحياناً كثيرة، نوقن أنّ هذا حَدَث، لكن لا ينجلي الأمر أبداً. في النهاية، نكفّ عن التوقّع والانتظار، ونكتفي بالتخمين.

في فيلمٍ يدور كلّه حول العواطف والمشاعر والذكريات والألم والفَقَد، وطبعاً تعقيدات العلاقة وصعوبتها بين الآباء والأبناء، يُصبح التقاطُ غيرَ القابل للتجسيد، وإيجاد طريقة عبر الصُور لوصفه، أمراً مذهلاً للغاية. يُحسَب هذا لوَلْس، وللمونتير بلير مكلِندون، الذي قارب مشاهد ولقطات كثيرة بأسلوبٍ شبه خيالي، كأنّه حلم، مُستحضراً مساحة سحرية تمزج الزمن بالعاطفة، ومُستعيناً بمادة ثرية، التقطها المُصوّر السينمائي غريغوري أوكي، بحيوية وحساسية بالغتين، ما خلق، بلا أدنى افتعال، أرضيةً لحاضر أصيل، ومشاعر صادقة ملموسة، باستحضار ذكريات وأشخاص وماض.

ربما يكون "بعد الشمس" شديد البساطة. لكنّها بساطة خادعة بالتأكيد. ربما يكون رتيباً أو مُملّاً. أحياناً، يبدو أن هناك عشوائية أو تضارباً أو تناقضاً في السرد، أو عدم اتساق مُرتبطاً بالصُور والكادرات. يرجع هذا، أساساً، إلى أن شارلوت وَلْس استخدمت لغة سينمائية خاصة بها جداً لسرد فيلمها، إذْ لم تلجأ للاستغلال، والتوظيف التقليدي المعتاد للقطات التسجيلية، وفيديو الهواة والتسجيلات المنزلية. بخلاف هذا، برز اختيارها المميّز والاحترافي لبطلين أدّيا دوريهما بصدق مذهل، وحساسية بالغة، وذكاء شديد، ما أهَّلَ الممثل الرائع بول ميسكال لنيل ترشيح عن دوره هذا، في "أوسكارات" هوليوود، التي تُعلن نتائجها الرسمية في 12 مارس/آذار 2023.

المساهمون