دخل برونو كولي (68 عاماً) غمار تأليف موسيقى الأفلام في سنٍّ باكرة، على يدي مخرج الأفلام الوثائقية فرنسوا ريتشَنباك، وكان لا يزال شابّاً، يتلقّى تكوينه في عزف الموسيقى الكلاسيكية، أواخر سبعينيات القرن الـ20، قبل أنْ يكتب موسيقى أفلام تلفزيونية كثيرة، وأخرى سينمائية، منها أول فيلم لجاك دافيلا.
لكنّ العمل الفارق في مسيرته تمثّل بالموسيقى الحالمة والغرائبية، التي ألّفها لوثائقيّ الثنائي كلود نوريدساني وماري بيرينو، "ميكروكوسموس" (1996)، عن عالم الحشرات، الذي حقّق نجاحاً كبيراً، كان للموسيقى فضلٌ كبير فيه، فتكلّل هذا بحصوله على أوّل "سيزار". تلاه الاشتغال على أعمال وثائقية أخرى خاصة بالطبيعة، أبرزها رائعة جاك بيران "الشعب المهاجر" (2001)، عن هجرة الإوزّ.
اشتغل كولي، في مساره الممتدّ لأكثر من 4 عقود، على موسيقى كلّ الأصناف والأنواع الفيلمية، مع مخرجين مهمّين من كلّ الأجيال: سليمان سيسي، جيمس هوث، كلود بيرّي، فريديريك شوندورفير، ماثيو كاسوفيتز، آلان شابا، باتريس لوكونت، فولكر شلوندورف؛ مُكرّساً أسلوباً ينتهج التجريب والمجازفة، يعطي الأسبقية للمناخات على السّرد، جاعلاً من كلّ مشروعٍ فرصةً لاختبار تركيبات سمفونية مُجدّدة، تمزج بين موسيقى العالم والموسيقى المعاصرة، ونزعته إلى دمج الأصوات البشرية، عبر التعاون مع المجموعات البوليفونية (البوليفونية: تعدّد الأصوات، أو موسيقى تتكوّن من تآلف نغمتين أو أكثر، معزوفة أو مغنّاة في الوقت نفسه) خلاف مواطنيه من المؤلّفين الموسيقيين، أمثال ألكسندر دِبلا، المتأثّر بإرث مؤلّفين فرنسيين، كجورج دولوري وفيليب سارد.
يبقى تعاونه المثمر مع بونوا جاكو (10 أفلام)، واشتغاله على موسيقى آخر أفلام آلان كورنو وبرتران تافرنييه، مصدر فخرٍ في سجلّه، بالإضافة إلى التأثير الذي طبع به سينما التحريك، بفضل موسيقى أفلام مهمّة، كـ"كورالين" (2009) لهنري سيلّيك، مُبدع فيلم التحريك "كابوس قبل عيد الميلاد" (1993)، عن قصّة تيم بورتون، صاحب الرسوم الأصلية، التي فاز عنها بجائزة "آنّي"، و3 أفلام لتوم مور. أنجز كولي أيضاً موسيقى أفلامٍ برهانٍ فنّي أقلّ، لكنّها فتحت له أبواب النجاح الجماهيري بشكل غير متوقّع، كموسيقى "الجوقة" (2004) لكريستوف بارّاتييه، التي حاز عنها ثالث "سيزار".
مشاركته في الدورة الـ"19 (15 ـ 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"المهرجان الدولي لسينما التحريك في مكناس"، أتاحت فرصة لقائه في هذا الحوار.
(*) أخمّن أنّ تدريبك كعازفٍ سمفونيّ في شبابك أفادك كثيراً في البداية. لكنّي أتساءل عمّا إذا كان أعاقك أيضاً عندما دخلت عالم السينما؟
أشعرُ بالخجل قليلاً من قول ذلك، لكنّي لم أكن مهتمّاً بالسينما إطلاقاً، عندما كنت طفلاً. باستثناء أفلام شابلن والسينما الصامتة عامة، التي كنتُ أحبّها كثيراً، كانت أفلام الأطفال التي يتمّ اصطحابي لمُشاهدتها لا تؤثّر فيّ البتّة. الموسيقى كانت شغفي، وآلتا الكمان والبيانو، وقبل كلّ شيء التأليف.
عندما كنتُ أدرس الموسيقى، أجريت تدريباً داخلياً في قاعة "أنتيغور". مكان رائع، يمكنك مقابلة أورسون ويلز صدفةً في أروقته. كنتُ أبلغ 17 عاماً. كان هناك مخرج وثائقي جيّد جداً، يدعى فرنسوا ريتشَنباك، علم أنّي أكتب الموسيقى، فطلب منّي تأليف موسيقى لفيلمه، ثم لفيلمٍ ثانٍ، ثم لثالثٍ عن المكسيك. فجأة، بدأتُ أهتمّ بالعلاقة بين الموسيقى والصورة، وكيف يُمكنك جعل الفيلم يهتزّ تحت وقع النّوتات. بعد ذلك، أصبحت مهتماً جداً بالسينما، ثمّ سينفيلياً إلى حدٍّ ما. كان الأمر رائعاً في باريس آنذاك، لأنّ بإمكانك حقاً مُشاهدة كلّ المخرجين الأميركيين والإيطاليين العظماء، برغمان وبونويل. تشرّبت كلّ ذلك، بينما واصلت ممارسة الموسيقى.
واضحٌ أنّ هذا أعاق، نوعاً ما، مساري. لكنّ الحياة غريبة جداً. جعلتني أسلك مساري هذا صدفةً، فأعاق بحثي الموسيقيّ قليلاً، إذْ كنتُ أركّز اهتمامي على الموسيقى المعاصرة. في الوقت نفسه، فتح هذا المجال العالم أمامي. أخرجتني السينما من غرفتي، وغدا كلّ فيلمٍ وكلّ لقاءٍ مع مخرجٍ فرصةً للاكتشاف. سعيتُ إلى أنْ يكون كلّ فيلمٍ مغامرةً جديدة. لم يكن الأمر مُمتعاً في كلّ مرّةٍ كنتُ أكرّر فيها تجربة فيلمٍ سابقٍ. فتحت لي السينما أبواب العالم.
(*) على عكس المؤلفين الموسيقيين، أمثال ألكسندر دِبلا، الذين لديهم سجل محدّد، نوعاً ما، تغذّيت أكثر من ثراء الموسيقى العالمية. هل هذا كان موجوداً في تكوينك منذ البداية، أو جاء لاحقاً؟
في الواقع، كنتُ دائماً مُهتماً بكلّ أنواع الموسيقى: الجاز، الـ"بوب"، الموسيقى الكلاسيكية التي انطلقت منها، والموسيقى المعاصرة. لكنّ الموسيقى العالمية استحوذت على شغفي، لأنّي أجدها قويّة جداً. بدأ الأمر منذ كنتُ صغيراً، مع عشق الموسيقى الهندية. ثمّ أثّر فيّ "صالون الموسيقى" (1958، لساتياجيت راي ـ المحرّر)، فشاهدته مرات عدّة. بعد ذلك، أصبحتُ مهتمّاً جداً بكلّ الأنواع: موسيقى البحر الأبيض المتوسط طبعاً، بما في ذلك المغرب. فتنتني البوليفونية. عملتُ مع مجموعات بوليفونية بلغارية، وأخرى تنتمي إلى الموسيقى الجورجية والكورسيكية.
أعتقدُ أنّ العمل مع أشخاصٍ ينتمون إلى عوالم موسيقية أخرى، مختلفة عن عوالمك، يجعلك تحقّق تقدّماً كثيراً. الأمر لا يتعلّق بالاستحواذ على ثقافة، ثم تحريفها قليلاً، بل بأخذ خطوة نحو الآخر، واقتراب الآخر، بدوره، خطوةً نحوك. هكذا ينشأ تواطؤٌ حقيقي.
(*) تسمّي ذلك "تركيبة سيمفونية"، مثلما نقول "دورٌ تركيبيٌّ" بخصوص أداء ممثّل.
نعم، هذا صحيح، لأنّه ينبغي أنْ يكون شخصانياً. في الوقت نفسه، أحاول أنْ أستخلص منه عسل موسيقاي. مثلاً، من أجل أفلام تومّ مور ("سرّ كيلز" عام 2009 و"أغنية البحر" عام 2014 و"وولفوالكرز" عام 2020 ـ المحرّر)، أعملُ مع فرق أوركسترا، لكنْ أيضاً مع فرقة أيرلندية لا يقرأ أعضاؤها الموسيقى، فأحاول أن أغنّيها لهم. ينتج عن ذلك أنّ الموسيقى التي نخرج بها ليست هجينةً، لكنّها ـ نوعاً ما ـ تركيبةٌ بين كتاباتي وطريقة عزفهم. أفيد كثيراً من ذلك.
(*) ماذا عن القدرة على الذّهاب إلى عالم مخرجٍ مثل بونوا جاكو؟ أتخيّل أنّه ليس أمراً هيّناً.
في الحقيقة، هذه إشكالية جوهرية. بالنسبة إلى جاكو، صنعت معه 10 أفلام، وأنا مُعجبٌ كثيراً بأسلوبه. هو يعرف الموسيقى جيداً، ويهتمّ بكلّ أنواعها. لكنّي أعتقدُ أنّ المشكلة الحقيقية في التعاون بين مؤلّف الموسيقى والمخرج تكمن في كيفية تحدّثهما عن الموسيقى. أعتقدُ أنّ الأسبقية ينبغي أنْ تُمنح للفيلم. أحياناً، عليك أنْ تذهب عكس ما يقوله المخرج، إذا كنتَ تعتقد أنّ الفيلم يتطلّب موسيقى مختلفة. هنا تكمن كلّ الصعوبة، وفي الوقت نفسه يجعل العملية برمّتها مثيرةً للاهتمام.
كلّ فيلمٍ فريدٌ من نوعه، والأمر متروك لنا للتكيّف معه، ومحاولة حدس المسكوت عنه، وكلّ ما لم يتمّ التعبير عنه مباشرةً في الفيلم، والتقاطه بالموسيقى.
(*) هناك عبارة جميلة لك وردت في نصّ الاسترجاع الذي نُظّم لأفلامك في الـ"سينماتيك" الفرنسية، تصف فيها التوتّر الذي يعيشه المخرج المؤلّف عندما يحضر تسجيل الموسيقى، ويشعر كأنّ شيئاً ما يجري وراء ظهره، أو ضدّ رغبته، أو بنوعٍ من "الاغتصاب النفسي". كيف تطوّرت العلاقة مع بونوا جاكو مثلاً، على هذا المستوى؟
أفضل المخرجين أولئك الذين يجعلونك تعتقد أنّ لديهم ثقةً مطلقةً فيك، حتّى عندما لا يكون الأمر كذلك، دائماً، في قرارة أنفسهم. بونوا يثق فيّ. هناك أيضاً تطورٌ كبيرٌ مقارنة بالماضي. عندما بدأتُ، كان يتعيّن عليّ العزف على البيانو، لمحاولة توضيح نواياي للمخرج. بعد ذلك، حين أجد نفسي مع فرق الأوركسترا، كنتُ أشعر دائماً بالقلق والتشتّت، وأنا أخمّن: "كيف سيتفاعل مع الأمر؟". ربما تبدو النتيجة مختلفةً تماماً، إلى درجة أنّها ربما تهزّ ثقته. لكنْ، اليوم، حقّقت معلومات الموسيقى تقدّماً كبيراً، يُمكِّننا من صنع نماذج أو "ماكيتات" ينبغي على الموسيقيّ أنْ يقدر على عزفها دائماً، لكنّها مفيدة جدّاً لنا. هكذا، أشرع، منذ بداية المونتاج، في توليف الفيلم على ماكيت الموسيقى الحقيقية، ثم أقوم بالتسجيل النّهائي لاحقاً. بفضل ذلك، لم يعد المخرج عرضةً لمفاجآت غير سارّةٍ أثناء التسجيل، وأصبح مؤلّف الموسيقى أقلّ قلقاً.
(*) تبدأ التوليف بعد مُشاهدة النسخة "القَبْلية" من الفيلم عادةً؟
نعم. هذا فعلته فترة طويلة جداً. ينطوي ذلك على نقطة سلبية كبيرة، لكوني أبدأ العمل متأخّراً. تناولتُ وجبات عشاء كثيرة قلِقاً، لأنّي لم أنتهِ من التوزيع الأوركسترالي في الوقت المحدّد. لكنّي، اليوم، أعتمد على الماكيت، لأنها تُجنّبني توليف الفيلم "قَبْلياً" على موسيقى أفلام أخرى مماثلة. هذا جيّد، لأنّه يُمكنّنا من عمل إسقاطاتٍ وتجارب اعتماداً على موسيقى الماكيت، فنرى ما ينجح وما لا يشتغل. هذا ثمينٌ جدّاً بالنسبة إلى المخرج.
(*) يُذكرّني هذا بلقائي مع برتران تافرنييه في مراكش، عندما قال إنّ مؤلّف الموسيقى أوّل ناقدٍ للفيلم. يُقال أيضاً إنّه حرص على تسجيل موسيقى "القاضي والقاتل" (1976) قبل بدء التصوير، وعمل على عزفها على البلاتوه لضبط نغمة الفيلم.
نعم، هذا وارد. اشتغلتُ على موسيقى الفيلم الأخير لبرتران ("رحلة عبر السينما الفرنسية"، 2016 ـ المحرّر)، ولم أحتج في حالته، بشكلٍ غريب، إلى إنجاز أيّ ماكيت، لأنّي كنتُ أعاني مشكلة صغيرة في السّمع. لكنّه تعامل مع الأمر بشكل رائع. جاء إلى الاستديو، وسجّلنا لمدّة يومين. اكتشف الموسيقى، وسعد بها. حدث الأمر برمّته بطريقة مؤثرة للغاية. للأسف، كان مريضاً حينها، لكنّه أخبرني أنّ هذا التعاون لحظةٌ سعيدة بالنسبة إليه.