باسم بريش (1/ 2): لا أريد حوارات فأنا أحبّ سينما الصُور

31 مارس 2023
باسم بريش: "السينما ليست دراسة بل إحساس" (فيسبوك)
+ الخط -

 

فيلمه الأول (عالعتبة) "سقط" في الجامعة. بعدها بأسبوع واحد، عُرض الفيلم نفسه في "أسبوع النقاد"، في الدورة الـ60 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2007) لمهرجان "كانّ" السينمائي. مسلسله الأول، "شنكبوت" (كتبه عام 2009)، نال جائزة "إيمي"، وأثار ضجة كبيرة بين الجمهور. مع ذلك، كان عليه أنْ ينتظر نحو 15 عاماً، قبل إخراجه أوّل روائي طويل، بعنوان "بركة العروس" (2022)، الفائز بجوائز عدّة في مهرجانات مختلفة.

إنّه المخرج اللبناني باسم بريش، الذي يعمل في المسرح والتلفزيون والسينما. ممثَّل وكاتب ومخرج، لكنّ السينما والإخراج "عشقه" الأول.

قبل فوز "بركة العروس" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، في الدورة الـ28 (3 ـ 10 مارس/ آذار 2023) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، حاورته "العربي الجديد":

 

(*) كيف بدأت الفنّ؟

درست في "معهد الفنون" في بيروت، لأكون ممثّلاً مسرحياً. كنتُ متفوّقاً كثيراً في الرقص. كان الجميع يتوقّعون أنْ أكون راقصاً. ذات يوم، شاهدت "يد إلهية" للمخرج إيليا سليمان، فخرجت من الصالة وأنا أقول: "أريد أنْ أصنع السينما، وليس أي شيء آخر". كان القرار الأول، وكنت كبيراً في السنّ. نشأت في الجبل. هناك، لم يكن مُتاحاً حضور الأفلام في صالات السينما. نشأت على مشاهدة الأفلام في التلفزيون. أفلام مصرية وهندية. معنى ذلك أنّه لم تكن لديّ ثقافة سينمائية مُقبلة من بعيد. ثم، فجأة، وأنا في العشرين من عمري، بدأت أفهم قليلاً ماذا تعني الثقافة السينمائية. بدأت أفكّر في السينما بشكل مختلف عمّا كنت أشاهده على شاشة التلفاز.

 

(*) هل فكّرت في دراسة السينما آنذاك؟

سافرت إلى إنكلترا لدراسة السينما. هناك، التقيت أستاذاً قال لي: "أنت كاتب"، فصدّقته، وذهبت في مسار الكتابة أكثر. صنعت أول فيلم قصير، بعنوان "عالعتبة (Both)"، الذي "سَقَط" في الجامعة. لكنْ، بعد أسبوع، تمّ قبوله في "أسبوع النقاد" في مهرجان "كانّ".

عندها، وقفت أتأمّل. قلت لنفسي إنّ السينما ليست دراسة، بل إحساس. السينما أنْ تمرّ على العالم بكلّ ما يحتويه، بإيقاعك الخاص، لا بإيقاع الآخر. أدركت أنّ دراستي السينما في إنكلترا غلطةٌ. الأفضل والأصَحّ أنْ أذهب إلى بلد سينمائي، وأدرس فيه السينما، لأنّي لم أستفد من دراستي في هذا المعهد، باستثناء قول الأستاذ لي إنّي كاتب.

 

(*) كيف تعاملْت مع تلك المفارقة؟

أكاديمياً، لم أكن ناجحاً. كنت ناجحاً فنياً. كان لديّ إحساس برغبتي في أنْ أُخبر قصصاً مختلفة في الحياة. كتبت مسلسلاً اسمه "شنكبوت"، بُثّ على الـ"ويب" عامي 2009 و2010، ومدّة كلّ حلقة 5 دقائق. أثار ضجة كبيرة، وفاز بجائزة "إيمي"، فشعرت بالاطمئنان، وبأنّي في مكان ما. صرت أكتب مسلسلات تلفزيونية. لكنْ، ولا مرّة وجدت نفسي. كنت أشعر بأنّي أريد سرد قصّة بطريقة مختلفة، إلى أنْ جاء قرار صنع فيلمي الروائي الطويل، بعد 3 أفلامٍ قصيرة، فبدأت رحلة "بركة العروس".

 

(*) كيف كان شعورك إزاء استقبال فيلمك في مهرجان "كانّ"، بعد "سقوطه" في الجامعة؟

هناك، لا يوجد مزاحٌ. يظهر ردّ الفعل في الإحساس، وفي العيون. لكنّ الغريب أنّي لم أستطع أنْ أبني على هذا النجاح. تعذّبت طويلاً. عُرض فيلمي القصير في "كانّ" عام 2007. نحن الآن عام 2023. أي أنّي أمضيت 15 ـ 16 عاماً قبل أنْ أتمكّن من إنجاز فيلمي الطويل الأول.

 

(*) لماذا؟

لأسباب عدّة. أعتقد أنّي كنت قادراً على صنع فيلمٍ، لكنّ ذلك لم يكن سهلاً، وهذا ليس تعالياً. عندي مشكلة كبيرة في انتقاء فكرة أحكي عنها. فكّرت طويلاً جداً في أيّ موضوع أريد أنْ أحكي عنه. هناك شيءٌ موجود في السوق السينمائية عندنا: الـ"ترند"، يريد الجميع ألّا نخرج عنه. بالنسبة إلى المواضيع، هناك أفكار أساسية لا بُدّ أنْ تكون لها علاقة بالجنس، وتُرضي المنتج الأوروبي. إذا حكيت عن لبنان، لا بُدّ أنْ أتحدّث عن الحرب والانفجارات. لكنْ، ماذا لو كنت لا أريد أنْ أحكي عن هذا كلّه؟ هنا، يُصبح الإنتاج أصعب.

 

(*) لكنّك كتبت مسلسلات. هل كتبتها بناءً على أفكار لك، أمْ كانت أفكار الآخرين؟ هل كنت تعمل عليها فقط من أجل خبز الحياة؟

بعض المسلسلات من أفكاري، وغيرها من أفكار آخرين، لكنّي كنت الكاتب الرئيسي فيها. طبعاً، هناك حاجة مادية تجعلني أكتب المسلسلات، وسيكون معيباً عليّ إنكار هذا. أعيش جيداً من عملي في المسلسلات، وليس من أفلامي. ككاتب، هناك حالة فرح بالهدوء، حين أجلس وأكتب بمفردي في غرفتي. أشعر بالسعادة. عندما يسألني الرفاق: "أيّ مرحلة من العمل الفني، بالنسبة إليك، أكثر متعة، منذ بدء الكتابة إلى النهاية"، أجيبهم: "لكلّ مرحلة متعتها. لكنْ، للكتابة والمونتاج معزّة كبيرة عندي. معهما، أقدر أنْ أذهب بالأفكار بعيداً".

 

(*) الرجال موجودون. لكنّه وجودٌ غير فاعل، وغير مرضيّ عنه، وغير مُشبِع.

تشعرين بأنّه موجودٌ وغير موجود. كأنّه كانت هناك عائلة وتفكّكت. لم أرغب في الشرح، أو في تحديد "أهو ميّت؟"، "هل طلّقها؟"، "ما سرّ اختفائه؟". تركته غامضاً. ليس مهمّاً سبب الاختفاء، المهمّ أنْ تعيش هذه اللحظة مع الشخص الذي يؤدّي هذا المشهد: امرأة قوية الشخصية، حتّى قبل أنْ تبدأ حملة "مي تو" وتوابعها.

 

(*) لماذا وصفتَ "بركة العروس"، قبل عرضه في سينما "أفيندا" ("مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط الـ28" ـ المحرّر) بأنّه صامت؟

كنت أريد القول إنّه لا يحكي بل يقول. الفيلم لا يُثرثر كثيراً، لكنّه يقول. لا يوجد شيءٌ عشوائي فيه، أو بالأحرى حاولت ألّا يكون هناك شيءٌ عشوائي. كلّ شيءٍ مدروس، رغم أنّه تغيّر كثيراً في المونتاج: مثلاً، مشهد البركة كان النهاية.

 

 

(*) احكِ لي عن مرحلة الكتابة.

كان هناك فيلمٌ طويل يُقيم فيّ دائماً. قررت الخروج من بيروت، فسافرت إلى إنكلترا. بدأت الكتابة في أيرلندا. كنت أنتظر الحصول على جواز السفر الإنكليزي. بدأت أكتب بمفردي. لم تنجح فكرة الحصول على الفيزا، فعدت إلى لبنان. واصلت الكتابة. غسان سلهب (مخرج لبناني، آخر فيلمٍ له بعنوان "النهر"، 2021 ـ المحرّر) شريكٌ في الكتابة.

 

(*) فكرة أنْ يشترك اثنان في الإخراج أشعر بأنّها مهمة أسهل، نسبياً، من فكرة أنْ يجلس اثنان معاً لكتابة سيناريو فيلم، أو خلق عالمٍ من الفراغ. كيف كانت هذه التجربة؟

مع غسان، لم نجلس للكتابة معاً. كانت بيننا جلسات طويلة من النقاش والتعمّق، ومزيدٍ من التعمّق. كنت أكتب أسبوعاً أو أسبوعين، ثم أجلس معه، ونتناقش. كانت جلسات حوار، لا كتابة.

 

(*) وهل من السهل تغييب الحوار؟

كنت أعرف أنّي لا أريد حواراً كثيراً. كنت أضع معوقات، أو مبادئ أساسية أمامي، كي أعتمدها بيني وبين نفسي. اكتفيت وضجرت من حوارات المسلسلات. كذلك أشعر بأنّ اللهجة اللبنانية ليست جذّابة كثيراً للمستمع. إنّها ليست اللهجة المصرية أو التونسية. كذلك، السينما التي أحبّها تعتمد كثيراً على الصُور، وعلى قليلٍ من الأحداث. لذا، اخترت، بل جذبتني سينما إيليا سليمان (مخرج فلسطيني، آخر فيلمٍ له بعنوان "إنْ شئتَ كما في السماء"، 2019 ـ المحرّر)، التي تعتمد على الصورة، وفيها قليل جداً من الحوار. لذلك، في مرحلة الكتابة، وضعت هذه الشروط، وألزمت نفسي بها.

 

(*) علاقة الابنة بوالدتها متوتّرة، من دون أنْ تُخبِرَ شيئاً عنها. البعض فسّرها بأنّ الابنة كانت تمتلك خيار أنْ تُجهض الجنين بنفسها. هذا لم يكن خياراً مُتاحاً للأم. ظلّت الابنة تذكّر الأم بالزوج الذي اختفى.

بالضبط. الابنة مرآة للأم، والأم مرآة للابنة. الابنة صنعت خياراً. كانت لديها فرصة الذهاب إلى المستشفى مع صديقتها، لكنّها اختارت بيت أمها. والأم، كذلك، فاجأتها بردّ الفعل. في البداية، حكت للطبيب، ثم أغلقت الهاتف، كأنّها قرّرت أنّها هي التي ستقوم بهذه المهمة. الابنة، في هذه اللحظة، أدركت أنّها لا تريد أنْ تكون نسخة من أمها، لا تريد لجنينها أنْ يعيش وحيداً. الأم لم ترد لابنتها أنْ تُكرّر حياتها كامرأة وحيدة في قرية من العوانس. ارتبطَتْ برجلٍ تزوّجها ثم اختفى، تاركاً لها ابنة.

أين المنطق؟ بعيداً عن الحبّ، أين إشباع الجسد، وإشباع رغبات هذه المرأة؟ هل يُفترض بها أنْ تبقى في بيتها، لأنّ الجارة تحكي عليها، والضيعة أيضاً تحكي عليها؟ سلمى (الأم، تمثيل كارول عبّود ـ المحرّر) حاولت صنع حالة. حاولت تحقيق ما في عقلها، وما تفكّر فيه. حتّى لو كان ذلك ضد المجتمع: أنْ تُشبع مشاعرها، وفي الوقت نفسه، تتّخذ موقفاً صحيحاً مع ابنتها (ثريا، تمثيل أميّة ملاعب ـ المحرّر)، وتساعدها.

 

(*) تصويرك لوجود الرجل، إلى حدّ ما، مُرعب. إنّه وجود غائب، أو مُشوّه. النماذج الحاضرة: رجلٌ مستأجرٌ لم يدفع الإيجار، ويتحدّث عن ابنه بطريقة غير جيّدة؛ حبيب سلمى رجل مُتزوّج يقيم علاقة معها في الخفاء، وفي الوقت نفسه لا يُشبع رغبتها. أعتقد أنّه غير مُدركٍ أنّه لا يُشبع رغبتها.

نعم، إنّه لا يعرف، وهذه إشكالية. لذلك، عندما تعود إلى البيت، بعد لقائهما، تُشبع رغبتها بنفسها.

المساهمون