مأزقٌ يواجه ناقداً: أيُشارك في سجال يتعلّق بـ"رأي" وزير لبناني للثقافة، يطلب منع عرضٍ تجاري محلّي لفيلمٍ سينمائي أميركي؛ أم يتغاضى عن ذلك، لأنّ المشاركة تؤدّي إلى تكرار كلامٍ قيل مراراً في أعوامٍ مديدة سابقة؟ أيتغاضى عن أزمة تعانيها الثقافة والفنون، في بلدٍ منهار، عيشاً وحياة وعلاقات وانفعالات؛ أم يقول موقفاً، يلتزمه في أزمنة لبنانية لاحقة على النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، ويلتزمه إلى الآن (رفض كلّ رقابة، أمنية وسياسية واجتماعية متزمّتة ومنغلقة، وطائفية/مذهبية وثقافية/فنية، على الثقافة والفنون)؟
ما الجديد الذي يُمكن التعبير عنه إزاء رقابة لبنانية غير محصورة بجهاز أمني، لانتشارها في الاجتماع والطوائف/المذاهب والإعلام، وفي جزءٍ كبيرٍ من ثقافة وفنون؟ ما فائدة تعبيرٍ كهذا، طالما أنّ النظام اللبناني - الحاكم باسم أمراء حرب، هم أنفسهم يُصبحون "أسياد سلام"، بفضل قانون العفو العام (26 أغسطس/آب 1991)، وباسم طوائف/مذاهب/أحزاب ـ غير مُكترث بموقف ورأي وتحليل، لأنّه الأقوى، ببطشه وقمعه وتنكيله بكلّ شيءٍ خارجٍ عن مفاهيمه ومفاهيم من يُمثّل، وبكلّ أحدٍ ينتفض على بيئته الطائفية/المذهبية/الحزبية، من أجل حرية فردية على الأقلّ، تُتيح له التزام ما يشاء من أفكارٍ ومسالك، طالما أنّ التزاماً كهذا، يُبنى على معرفة ووعي وتفكير، غير مؤذٍ؟
المطالبة بمنع العرض التجاري المحلي لـ"باربي" (2023)، للأميركية غريتا غرويغ، الذي يُفترض به أنْ يبدأ لبنانياً في 31 أغسطس/آب 2023، غير نافعة، فكلّ قرار بمنع العرض أو إجازته يصدر عن "جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية"، التابع لـ"المديرية العامة للأمن العام". كلامٌ، يتردّد في إعلامٍ ومواقع مختلفة، يُشير إلى أنّ لجنة رقابية غير واجدة فيه ما يستدعي المنع. أيكون صراعٌ خفي بين أجهزة سلطة تتحكّم بالبلد وناسه؟ هذا غير مهمّ. المطالبة (9 أغسطس/آب 2023) متأتية من "مُشاهدة" وزير الثقافة، محمد وسام المرتضى، الفيلمَ المذكور، كما يقول الوزير نفسه في ردٍّ، منشور في الصحيفة اليومية اللبنانية "النهار" (11 أغسطس/آب الجاري)، على مقالة للناقد هوفيك حبشيان ("النهار"، قبل يومٍ واحد على الردّ)، ينتقد فيها موقف الوزير، ويُطالب المثقفين، "أو من بقي منهم في لبنان"، الذين يفترض به (الوزير) "تمثيلهم"، أنْ يتحرّكوا "فوراً".
هذه معضلة. يندر وجود مثقّفٍ/مثقّفة قادر على تحرّك مفيد، في بلدٍ مُكبَّل بأغلال طائفية/مذهبية/حزبية قاتلة. تاريخ البلد شاهدٌ على ذلك، فمن يُعلي صوتاً باسم حقّ وحرية وكرامة، معطوفة كلّها على مطالبة بإصلاحاتٍ جذرية، ودفاع عن بلدٍ وناسه، موجودٌ حالياً إمّا في قبر، أو في منفى، أو في عزلة خانقة؛ وإنْ يكتب ويقول، فكتابته وقوله غير مؤثِّرين إطلاقاً (من يقرأ ويسمع؟).
هذا غير داعٍ إلى إعمال الصمت، لكنّه دعوة إلى تساؤل عن ماهية التحرّك وآلياته، في بلدٍ مغلقٍ ومخنوق. رفض الرقابة، بأنواعها وتمثّلاتها كلّها، يستدعي تكراراً لكلامٍ مكتوبٍ منذ أعوام، من دون تحقيق أي جدوى عملية. وزير لبناني سابق للثقافة (طارق متري) يريد خطة عملية لـ"تحديث" قانون الرقابة قدر المستطاع، ففي بلدٍ كلبنان يستحيل إلغاء الرقابة، التي تحميها 17 طائفة، ولبعض الطوائف/المذاهب أحزاب، وبعض تلك الأحزاب مسلّح. نقاشاتٌ له مع مهتمّين/مهتمّات غير متمكّنة من إيجاد خطة كهذه، فالفترة حينها مرتبكة ومتوترة، سياسياً وأمنياً واجتماعياً (بعد "حرب 2006")، والوزير نفسه مُكَلَّف أيضاً بوزارة الخارجية بالوكالة. أمّا تحديث قانونٍ، كهذا وكغيره، فشبه مستحيل في بلدٍ كلبنان، هذه حالته.
يجب أنْ يتحرّك المعنيون/المعنيات بالثقافة والفنون إزاء آلة قمعٍ، يُديرها نظامٌ حاكمٍ، في غياب تامّ لدولة المؤسّسات. هذا بديهي ومطلوب. لكنْ، كيف؟ لا أعرف. إلى الآن، هناك أفلامٌ لبنانية "ممنوع" عرضها تجارياً، وغير تجاري أحياناً، لكونها مرايا صادقة وشفّافة (وجميلة سينمائياً) تعكس وقائع خطرة في بلدٍ مُفكّك، وذاكرة معطوبة، وتاريخ يُراد له النسيان. مُطالَبات كثيرة بـ"إلغاء" الرقابة، أو إخراجها من الجهاز الأمني، لكنّ شيئاً من هذا غير متحقَّقٍ، لأنّ الرقابة اللبنانية رقابات كثيرة، وبعضها أخطر من تلك التابعة لجهاز أمني، فالطوائف/المذاهب أعنف في ممارسة رقاباتها، و"مثقفون"/"مثقفات" لبنانيون كثيرون خانعون لمرجعياتهم الدينية، الطائفية/المذهبية، و"رقابتهم" أخطر وأسوأ: من منكم/منكنّ يُدرك "آراءهم" و"مواقفهم" في مسائل متعلّقة بالاجتماع والحياة والانفعالات والعلاقات، يمارسونها يومياً، ويقولون بها في مقاهٍ ولقاءات مختلفة؟ إنّها كارثة.
هذا ليس تشاؤماً أو استسلاماً لصمتٍ، يلجأ إليه عاملون/عاملات لبنانيون في الثقافة والفنون، تسألهم "لوريان لو جور" (صحيفة يومية فرنكوفونية لبنانية) عن رأي أو موقف أو قول بخصوص مطالبة الوزير المرتضى بمنع عرض "باربي". بعضٌ منهم/منهنّ يلتزم الصمت خشية "الإضرار بعلاقته بالوزارة، التي تمنحه تصاريح عمل عدّة يحتاج إليها"، كما ينقلُ عن هذا البعض تقديمُ التحقيق (زينة زلزل، 12 أغسطس/آب 2023). هذا ليس رفضاً لنقاشٍ، يُفترض به أنْ يبتكر آليات تحرّك فعّال، بدل الاكتفاء بكتابة، وإنْ تكن صاخبة أحياناً، فهذا ضروري. هذا ليس استسلاماً لصمتٍ، بل محاولة لتبيان واقع، يتداخل فيه الذاتي بالعام. هذه محاولة بحثٍ عن جديدٍ يُقال في مسألة الرقابة، رغم استحالة شبه كاملة في العثور على جديدٍ فعّال ومفيد.
تجربة "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) دليلٌ على عجز لبناني قاتل عن إحداث حدٍّ أدنى من تغيير منشود، رغم آلافٍ يصنعون أجمل حراكٍ شعبي عفوي مدني، منذ "ثورة الأرز" (14 مارس/آذار 2005)، التي يغتالها قادةُ سياسةٍ وطوائف/مذاهب منبثقون من مُسبِّبها (اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005). فهل يُمكن لعاملين/عاملات في الثقافة والفنون إحداث تغيير، لا شكّ أنّه ضروري ومطلوب؟
فعلاً، إنّه مأزقٌ يواجه ناقداً. فما العمل؟