"باخ وخيام"... سه تار كايا تاباسيان بأوتاره الثلاثة

19 نوفمبر 2023
كايا تاباسيان في أحد عروضه (Getty)
+ الخط -

سه تار، اسم الآلة التي يعزف عليها إيراني المولد، كندي الموطن، كايا تاباسيان (47 عاماً)، كأنما يوحي بتوجّهه الموسيقي. فالكلمتان تعنيان بالفارسية "ثلاثة أوتار"، أي عدد الأوتار التي تُشدّ على هيكلها الخشبي، الذي يشبه إلى حد ما البزق الشائع في الشام، سوى أنها تُضرب بأظافر الأصابع كالغيتار.

كذلك الأمر، تُميّز فرقة Constantinople ، أي القسطنطينية، التي تأسست بإدارة تاباسيان في مدينة مونتريال الكندية سنة 2001، ثلاثة مناخات موسيقية رئيسية، الباروك الغربي، والموروث الشرقي لغرب آسيا بالإضافة إلى التصوف العصري، كل ذلك تحت مظلة العبور Crossover ، والتي تعني التنقّل الأسلوبي من ثقافة إلى ثقافة، ومن لون موسيقي إلى آخر.
 
في منتصف الشهر الماضي، افتتحت كوستانتينوبول برنامج حفلاتها لهذا الموسم، من قاعة Salle Bourgie في مونتريال. لأجل الأمسية، اختير عنوان "باخ وخيام" (Bach & Khayyam) وذلك نسبةً إلى كل من العالم والشاعر والفيلسوف الفارسي عمر الخيام (1048 - 1131) والمؤلف الموسيقي الألماني يوهان سباستيان باخ (1685 - 1750).

كما يُشير العنوان، جرى العرض على شكل تتالٍ وتناوب، ومرات تواصل بين أغانٍ تعود إلى عصر الباروك من القرن السابع عشر، ألفها باخ، وأدتها التشيكية هانا بلاتشيكوڤا بصحبة أعضاء الفرقة، وبين أخرى معاصرة لحّنها تاباسيان وأسماء أخرى، وذلك بوضع ألحانٍ لمختارات من رباعيات الخيام.

في مراجعة للحفل، كتب الناقد الكندي فريدريك كاردان لموقع Panm360: "قبل خمسين عاماً، لم يكن لعالميَن (والمقصود هنا موسيقى الباروك والموسيقى الشرقية) أن يتصالحا بنظر العارفين بأصول السماع وأصحاب النهج الطهراني إزاءه. أما اليوم، فيبدوان قادرين تماماً على الوئام وتحريض جمهور المستمعين على التركيز العالي والتصفيق الحار المديد".

ولكونها فاتحة الأمسية، جرى تصميم الفقرة الأولى من الحفل، لتُقدم صورة شاملة عن توجّه الفرقة ونهجها؛ إذ تِمّ اللجوء إلى وصل خطيٍّ سلس بين أغنية، عنونها باخ "آه، تلك ليست بالساعة الأخيرة" (Ach, daß nicht die letzte Stunde) ورباعية الخيام رقم 178، غنّاها تاباسيان ومطلعها "عند الفجر، أيها المثال، ها هي السعادة" (هنگام  صبوح ای صنم فرخ پی). سلاسةٌ، يَسَّرها التشابه ما بين السلم الكلاسيكي الغربي، مي مينور، ومقام النهاوند الشرقي، إذا كان قراره نغمة المي.

موسيقى
التحديثات الحية


ثَمّ تشابهٌ آخر جرى توظيفه صوتياً، يكمن بين أصوات الآلات الأوروبية القديمة والآلات الشرقية. ففي العصور الوسطى والفترة السابقة لحقبة التنوير والثورة التكنولوجية والصناعية، لم تتطوّر آلة الكمان الغربية، مثلاً، أو الفلوت، ليشتد صوتها، ويعلو جوابها ويُمعيَر دوزانها وفق السلّم الغربيّ المعدّل، وإنما الذي ميّزها بشكل أساسي الهوية اللونية للصوت الصادر عنها، فتقترب بذلك من الآلات الشرقية، كالعود والربابة والقانون بعمرانها القديم، الذي لا يزال شائعاً حتى اليوم.
  
أسلوبياً، تتشابه كلٌّ من موسيقى عصر الباروك الأوروبي، وما قبله والموسيقى الشرقية من غرب آسيا إلى اليابان، في اعتمادها على الإشباع الزخرفي للألحان، وتنفيذها لتلك الزخارف بطريق الارتجال. في حين أن الموسيقى الغربية بداية القرن الثامن عشر، راحت تستجيب لجماليات الحقبة الكلاسيكية ومناخاتها الفكرية والأدبية ذات النظرة البنوية إزاء التأليف والأداء، فساد بذلك نهج الاكتفاء بعناصر المقطوعة الموسيقية من محض انسجامات وجمل لحنية وأنماط إيقاعية، بوصفها حوامل للتعبير الفنَي.

في المقابل، يسعى أعضاء فرقة كونستانتينوبول، ليس إلى الإسهاب بالزخرفة الصوتية وحسب، وإنما إيضاً، إلى خلط النماذخ المختلفة بين تلك الشائعة في الشرق مع تلك التي يُعتقد اليوم أن الموسيقيين الأوروبيين زمن عصر الباروك قد اعتادوا تنفيذها، وذلك بحسب شروحات أسلوبية، جرى حفظها، فانتقالها، عبر مخطوطات تعود إلى الحقبة الغابرة.
 
فعلى سبيل المثال، خلال أغنية باخ من الفقرة الأولى، تلتقط الأذن نيفا أوزغِن (Neva Özgen) عازفة آلة الكمنجة التركية الشبيهة بالربابة، وهي تؤدي الألحان بإضافة النمط الزخرفي الشرقي عليها. في المقابل، تؤدي تانيا لابيرييه (Tanya LaPerrièr) عازفة الكمان الكندية الألحان الشرقية التي وُضعت لشعر الخيام، بأسلوب الزخرفة الأوروبي المتعارف عليه لدى أوساط موسيقيي الباروك الجدد.

أما الأجواء الثقافية التي تسعى الفرقة إلى خلقها، ومن خلفها تاباسيان، فتتميّز بالمزاوجة ما بين الروحانيات الشرقية من شعر وطرب وتصوّف، وبين الغيبيّة الغربية (Western esotericism) التي تعود جذورها إلى الحقبة المسيحية في العصور الوسطى.

هنا، إضافةً إلى الموسيقى، تلعب الأزياء، قروسطية الطابع، الداكنة المتقشفة، والشعور المُسدلة واللحى المُطلقة، دوراً في رسم مشهد ورع، يستجيب إلى مظاهر عوِزٍ روحي مستشرٍ بين شريحة في المجتمعات الرأسمالية الغربية، ما انفكّت تكبر مع كبر الفوارق الاقتصادية، واشتداد وطأة الغربة المقترنة بجموح النزعة الاستهلاكية وتنامي الفردية المفرطة، والبحث عن بوصلة وجودية في ظل العولمة وغياهب الإنترتت.

يبقى أن تلك المشهدية الروحانية الشرق-غربية، تستمد مرجعيتها من القِدم، لا بل إنها توحي بأن التاريخ إنما هو المجال البيني الوحيد الذي يمكن للثقافة الشرقية أن تتقاطع وتتلاقح فيه مع نظيرتها الغربية. وعليه، تبدو الفرقة كأنها تتبنّى رؤية خطيّة، استشراقية الهوى، إزاء موقع الشرق على مسار الحداثة؛ حيث يبقى الشرق قديماً، وليس له أن يلتقي بالغرب إلا حينما كان الغرب قديماً، أي في الماضي.

تلك المساعي المتبلورة من خلال مشاريع ثقافية فنية وموسيقية، والمتجددة من أجل البحث عن جماليات روحية في الماضي، إنما تشكك بمقدرة الحاضر على إبداع جماليات روحية خاصة به، عابرة للهوية وبواسطة أدواته العصرية، أكوستية كانت أم إلكترونية، وذلك عوضاً عن استحضار الأحقاب الغابرة، بهيئة سمعية كانت، أم بصرية، فلا تتعدى بذلك أن تكون استثماراً في النوستالجيا، وفي المخيال الثقافي الغربي إزاء الشرق بوصفه مهد الروحانيات، ولحدها.

المساهمون