امرأتان وثقلُ تاريخٍ وراهنٍ: التحريك والآيفون يخدمان الوثائقي

06 نوفمبر 2020
إلزه بوركوفسكا ياكبسن وصورتها في التحريك: سيرة امرأة وبلد (فيسبوك)
+ الخط -

 

فيلمان يرويان سِيرتي امرأتين، في لقطات تصويرية مباشرة، أو عبر رسوم تحريك تختلط بصُور وتسجيلات أرشيفية ولقاءات حيّة. يرويان بعض الذاتي، المنفتح على وقائع ومسالك وعيشٍ. تعود إحداهما إلى ذاكرةٍ وتاريخ، وتبقى الأخرى في راهنٍ لتوثيق شيء من قواعده. الصرامة عاملٌ مشترك، فالذاكرة والتاريخ مليئان ببطشٍ ستاليني لاحقٍ على عنف الحرب العالمية الثانية، والراهن مبنيٌّ على تقاليد اجتماعية قاسية، منبثقة من تفسيراتٍ دينية تُلزم المرأة بها، من دون أنْ يُسمح لها بردّ، أو بتعبير عن موقف، أو بالبوح بشعورٍ.

الليتوانية إلزه بوركوفسكا ياكبسن (1971) تُنجز "حربي المفضَّلة" (2020، إنتاج مشترك بين النرويج ولاتفيا)، مستعينة بفنّ التحريك لسرد حكايةٍ شخصيّة. الألمانية سوزان ريغينا مويرس (1977) تحصل على ساعات طويلة من لقطات، تُصوّرها الشابّة السعودية مُنى سرّياً، بين إبريل/ نيسان ويونيو/ حزيران 2019، بواسطة جهازين خلويين (سمارتفون) خاصّين بها، فتُحقِّق "سعودية هاربة" (2020، سويسرا).

تغوص الأولى في حروبٍ وقمعٍ وعنفٍ يوميّ، يُمارَس (العنف) على أناسٍ وجماعات وبيئات، وتسرد حكايات جدّها لأمّها في مواجهة سلطةٍ قامعةٍ في الاتحاد السوفييتي، ووالدها المنضوي في الحزب الشيوعي السوفييتي، ويوميات الفقر والحصار والخوف والتلقين التربوي القاسي، المليء بهواجس حربٍ منتظرة، وتدريبٍ عسكري لمراهقات ومراهقين في زمن سوفييتي قاسٍ. تختفي المخرجة غالباً في تحريكٍ، وتُخبِر راويةٌ سيرتَها. أما مُنى، فتُخفي هاتفيها الخلويين، لتتمكّن من تصوير يوميات عيشٍ في منزلٍ، يحكمه استبداد أبٍ ملتزم إيماناً وقناعاتٍ منبثقة منه، وتُخبر هي نفسها قصّتها.

ابتكار التحريك يُخفِّف من ثقل الحكايات، رغم أنّ رسوماً عدّة تعكس ثقل وقائع وعنفها. تحويل هاتف خلوي إلى كاميرا تمرينٌ على التقاط المكشوف والمعيش، من دون انتباه "شخصيات" أساسية في حكاية مُنى، التي تخفي ملامح كلّ فردٍ من عائلتها، وكلّ صديقةٍ تكون إلى جانبها لحظة الزواج. التداخل بين التحريك والتوثيق المُصوَّر والمسجَّل، بالإضافة إلى مقتطفات من أفلامٍ تُعرض على شاشة تلفزيونية، اشتغالٌ فنّي وذاتيّ وتأمّلي في علاقة الصورة السينمائية بحدثٍ أو حالةٍ أو انفعال. "حربي المفضّلة" خليطٌ يُوثِّق حقائق فردية مغيّبة، فتدعم الوثائق البصرية رواية التحريك. مُنى مكتفيةٌ بما لديها من تقنيات متطوّرة وقليلة جداً، فالسرّية أساس عملها، والتجوّل بحرية في منزلٍ ونفوسٍ (وإنْ ينفضّ التجوّل عن كلّ عمقٍ في نفسٍ وعقلٍ وتفكير، لأنّ الأهمّ كامنٌ في سرد حكاية مُنى لا حكايات الآخرين)، رحلةٌ محفوفة بمخاطر تنتهي، بعد جهدٍ وصبر، في منفى ألمانيّ، يمنح منى حقّ اللجوء.

 

 

تعود إلزه بوركوفسكا ياكبسن إلى ماضٍ تريد كشفه أمام ذاتها أولاً، لتتحرّر من ذاكرة تُثقِل عليها، فإذا بتدمير آخر قلعة عسكرية سوفييتية في لاتفيا، عام 1995، "يختم" الحرب العالمية الثانية، بالنسبة إليها: "في النهاية، كلّ الذين حالوا دون اتّخاذنا خياراتٍ ودون تحقيقها، أصبحوا شظايا متناثرة في المياه"، تقول إلزه (اسم الشخصية الرئيسية في التحريك أيضاً)، مُضيفةً: "نحن النهر" الجارف إياهم: "باحتفاظنا بآدميّتنا، تمكّنا من المضي قُدماً". في المقابل، تحصر مُنى زمنها الملعون، بسبب قبضة اجتماعٍ ذكوريّ ضاغط، في راهنٍ تريد النجاة منّه، رغم أنّ كلامها عن تقاليد واجتماع ذكوريّ وفرض التزامات عليها كامرأة مُكرّر ومعروفٌ وغير جديد، وتعبيرها عنّه تقليديّ للغاية، فتسجيلاتها توثِّق اشتغالها على الخروج من تلك البيئة، والهرب إلى أوروبا، مع جُملٍ قليلة تعكس واقعاً يقول، مثلاً، بمنع خروجها من المنزل "من دون العائلة كلّها".

فنُّ الوثائقيّ منعدمٌ في اشتغال الألمانية سوزان ريغينا مويرس. فيلمها موقفٌ سياسي أخلاقي، باهت فنياً، لا نتاجٌ سينمائي؛ والنصّ توثيقُ عيشٍ معروف لا يبتكر شيئاً بصرياً، ولا ينقل المعروف إلى جمالياتٍ، يُفترض بها أنْ تصنع فيلماً سينمائياً. تقول منى، في بداية "سعودية هاربة"، إنّ تسجيلاتها لن تكون من أجل الفيلم فقط، بل ستكون "بمثابة أدلّة". لكنّ الأدلة مُتدَاولة، والذاتيّ عاديّ، والسرد يُكرِّر مشاهد وكلاماً وخوفاً إزاء مغامرة تريدها منى، لكنّها قلقة من نجاحها، المتمثّل بفرارها من عائلتها وزوجها وبلدها وعالمها. تقول ضمناً إنّ الوضع غير قابل للتغيير: "سيستمرّ الرجال في السيطرة على النساء"؛ وأيضاً: "لا يوجد قانون يحمي المرأة من عنف العائلة"، وهذا الأخير (عنف العائلة) تظهر آثارٌ منه على جسد أياد، شقيق مُنى.

مشتركٌ آخر يجمع فيلمي إلزه ومنى: التصالح مع الذات، وإنْ تختلف بينهما أدوات المصالحة والسُبل إليها. إلزه تغوص في أعماق الجرح، كي تُسقِط عن روحها أشباح ماضٍ، يجب عليها تحدّيها ومواجهتها والتحرّر منها؛ ومنى ترى في الهرب والهجرة خلاصاً، واللجوء إلى ألمانيا دربٌ إلى حرية فردية تبتغيها للتمكّن من العيش بسكينةٍ، في مساحة رحْبة وأليفة وهادئة (هل تنجح في ذلك؟ لا إجابة في الفيلم). المعلومات المذكورة في نهايتي الفيلمين تلقينية تعليمية، فالنصّان متأتّيان من وقائع وتاريخ ومسالك وتربية، ما يُضفي على الفيلمين جانباً تسجيلياً يبتعد عن فنّ الوثائقيّ، مع احتفاظ الأول، بفضل التحريك تحديداً، بجانب سينمائي متماسك.

تقول إلزه بوركوفسكا ياكبسن هواجسها وكيفية خروجها من ثقل التاريخ عليها، وتذكر سوزان ريغينا مويرس معلومات تُفيد أنّ هناك ألف امرأة سعودية يهربن من بلدهن كلّ عام: "رغم إصلاحات أخيرة، لا تزال جمعيات حقوق الإنسان تعتبر أنّ المملكة العربية السعودية أحد أكثر البلدان تقييداً لحقوق النساء".

بين تسجيلٍ حيّ لوقائع ومعطيات، واعتماد البصريّ في ابتكار أشكالٍ فنية في مواجهة الذات، تُروى حكاياتٌ تشهدها امرأتان تنتميان إلى عالِمين مختلفين، رغم تشابهٍ في عنف اليوميّ، وثقل الذاكرة، ومواجع الحاضر.

المساهمون