يطرح اليوم العالمي لحرية الصحافة تساؤلات عن الغاية من الاحتفال والتخليد. وفي معظم دول المنطقة سيمر هذا اليوم على محطات صارت مألوفة، مثل مؤشر "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة، والمحاولةٍ لتحديد ترتيب دول المنطقة وما الذي تغيّر فيها عن العام الماضي، ثم بعض التقارير التي تحاول "أنسنة" الموضوع وكسوه باللحم والدم نظراً لأن القضية ليست قضية أرقام بعد كل شيء، وهكذا.
فهل توجد فرصة للمرور على هذا اليوم بطريقة مختلفة في المنطقة الرمادية بين ما جرى وبين المتخيل ربما؟ تقدم السينما فسحة صغيرة في هذا الشأن، عبر مجموعة من الأفلام التي دخلت في تركيبها هذه المهنة ومن يشتغلون فيها.
Citizen Kane - 1941
يعد الفيلم اليوم من الأعمال الكلاسيكية التي تحضر في شتى أشكال القوائم، إلا أن هذا الاستحقاق سبقه عوائد مالية منخفضة للفيلم ومناوشات مع وسائل الإعلام نفسها. ويروي الفيلم الذي أخرجه أورسون ويلز حكاية تشارلز فوستر كين، الوريث الثري الذي يمتلك واحدة من أكبر إمبراطوريات الإعلام، معتمداً على تقنيات في السرد والتصوير لم تكن قد صارت راسخة في هوليوود.
وللفيلم علاقة مشتبكة بالصحافة، إذ أن معظم شخصياته الرئيسية هم من العاملين في الصحافة، إضافةً إلى أن تفحص الفيلم بالعلاقة مع ما كان سائداً حينها في عالم نظريات الاتصال يجعله من أولى الأفلام التي نظرت في علاقة وسائل الاتصال بالرأي العام. خارج دور السينما، حاول ويليام راندولف هيرست، رجل الأعمال الأميركي والمالك لواحدة من أكبر إمبراطوريات الإعلام حينها، منع الفيلم من العرض بطرق عدة، تراوحت بين التهديد بالقانون والابتزاز، لاعتقاده أن العمل كان يدور حول حكايته هو. ولذلك، فإن الفيلم يستطيع قول عدة أشياء دفعة واحدة عن علاقته بالصحافة.
All the President’s Men - 1976
أُنتِج هذا الفيلم بعد سنوات قليلة من فضيحة ووترغيت التي أدت إلى استقالة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 وتولي نائبة جيرالد فورد الرئاسة. ويتتبع الفيلم بدايات اكتشاف الواقعة التي تورّطت فيها إدارة نيكسون بالتجسس على مكتب اللجنة الوطنية الديموقراطية في المبنى الذي يحمل اسم ووترغيت.
أدى حجم الفضيحة إلى ارتباطها بعدد هائل من الأعمال الثقافية، إلا أن فيلم "كل رجال الرئيس" يمتاز عنها لعدة أسباب؛ يقدم تصويراً مقنعاً لما تنضوي عليه مهمة بتعقيد إثبات تورط رئيس أكبر دولة في العالم بفضيحة سياسية ودستورية، ناجحاً في بناء قصته بطريقة تشرك المشاهد في رحلة البحث الطويلة والمضنية التي خاضها الصحافيان بوب وودورد وكارل برنستين ليكشفا حقيقة ما جرى، مضيفاً العنصر الدرامي للقصة، ومحافظاً على الدقة التاريخية التي يحاول أن يكون مخلصاً لها.
ومع التطورات التكنولوجية التي نشهدها اليوم، لا يبدو أن الخوف من التجسس سيصبح مشكلة من الماضي، وفي سياق كهذا يقدم الفيلم تذكيراً هاماً بما يمكن لجهاز صحافةٍ متمكن فعله.
Spotlight - 2015
يقدم هذا الفيلم من إخراج توم مكارثي قصةً حقيقية عن فريق الصحافة الاستقصائية في صحيفة بوسطن غلوب، وكشفه للإساءات الجنسية المنتشرة في الكنيسة الكاثوليكية. ويصور العمل الطريق الطويل الذي سلكه الصحافيون لكشف الحقيقة، مارين بعقبات عديدة تبدأ بالآثار الشخصية التي تطاول أعضاء الفريق وتصل إلى أحداث أكبر كاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 التي اضطرتهم لتأجيل العمل على التحقيق، لينجح الفريق بعدها في نشر الملف الذي يكشف مشكلةً ممنهجة في الكنيسة.
حظي الفيلم بتقديرٍ عالٍ لأسباب تتعلق بطريقة تقديم هذه القصة للجمهور، وتركيزه على جانب الضحايا لا الصحافيين فقط، وتذكيره بالإمكانيات التي تحظى بها الصحافة الاستقصائية باعتبارها مكوناً هاماً لأي مجتمع يطبق قيم الشفافية والمحاسبة.
Collective - 2019
يندلع حريق في نادٍ ليلي في رومانيا عام 2015، مخلفاً عدداً من الضحايا والجرحى، وهو ما دفع الحكومة حينها للاستقالة تحت ضغط الاحتجاجات وردود الأفعال. ربما تنتهي، في فرضية مغايرة، الحكاية هنا أو عند محاولات لتطبيق قصاص فردي، إلا أن صحافياً رومانياً يدعى كتالين تولونتان يضمن ألا تتحول القضية إلى مجرد حادثة معزولة. وما يبدأ بمحاولة لفضح ضعف القطاع الصحي ينتهي بحقيقة تلف البلاد بأسرها.
يروي "كوليكتيف"، من إخراج أليكساندر ناناو، حكاية تولونتان وزملائه وزميلاته في صحيفة "غازيتا سبورتوليرور". ترافق كاميرا الفيلم الصحافيين، وتوثق كشوفاتهم مرات والنهايات المسدودة التي يصلون إليها مرات أخرى، وقد تكون أبرزها الموت المفاجئ لمتورطٍ في القضية كان من شأنه تسهيل كشف ملابساتها. وعلى الرغم من أن "كوليكتيف" يبقى مخلصاً لغرف التحرير وأروقة الصحيفة، فإنه يعرض أيضاً الصورة التي كشفتها هذه الصحيفة، والعفن الذي يلف النظام السياسي لبلدٍ بأكمله.
وإزاء تصوير بهذا الإخلاص ليس ثمة نهايات سعيدة أو حزينة حتى، بل قصة لا تزال تكتب عمن فقدوا أحبتهم ويطمحون بألا تتكرر مآسيهم، وصحافيين بات روتين شهرتهم الجديدة يتضمن التهديدات بالقتل والأذية، وبلاد يعرف الصحافيون أنفسهم أن تغييرها يستلزم أكثر من ضربة مطرقة واحدة.
The French Dispatch - 2021
ثمة رسالة حب يهديها المخرج ويس أندرسون للصحافة في فيلمه "ذا فرينش ديسباتش"، وتوضح الجانب الآخر لهذا العمل الذي قد يصعب العثور عليه في الأعمال السابقة.
تجري أحداث الفيلم في بلدة فرنسية متخيلة حيث تصدر الصحيفة التي يحمل الفيلم اسمها، وتلعب دوراً عضوياً في تركيب حكاياته ونسجها سويةً.
وبينما تغيب عن الفيلم بعض العناصر التي قد تكون مشتركة بين الأعمال السابقة والتي تتبادر للذهن عند التفكير بفيلمٍ عن الصحافة، إلا أنه يلتفت لجانب آخر كلياً يرتبط بهذه الحرفة. إذ يساهم تركيز الفيلم على القصص الصحافية الأقل إثارة للجدل في الإضاءة على أسئلة مهمة أخرى، مثل كيفية بناء الصحافيين لقصصهم والحدود التي تفصل عوالمهم الشخصية عن أعمالهم، ماراً أيضاً في الخلفية على حقبة بأكملها كانت الصحافة أكثر حضوراً فيها، إن كان ذلك بين جماهير قرائها أو من منظور من يشتغلون بها أنفسهم.