تمتلك الدولة السيادة على حياة وموت مواطنيها. هذا الحق الذي تتبناه الدولة يأخذ أشكالاً مختلفة، وتتم ممارسته قضائياً وسياسيّاً، سواء على مستوى أصغر وحدات المجتمع، المتمثلة بالأسرة والفرد، أو على مستوى "الشعب" بأكمله، في ما يخص الحروب والطبابة. لكن واحدة من التنويعات على هذا الحق تتمثل بنظام الوصاية، أي حين تعلن "الدولة"، بقرار قضائي وتقرير طبي، أن الفرد غير قادر على إدارة شأنه الشخصيّ، سواء مالياً أو صحياً، ولا بد من تعيين وصيّ قادر على "إدارة" حياة هذا الفرد.
الاختزال السابق نراه بصورة أكثر تفصيلاً في فيلمين صدرا مؤخراً، ينتميان إلى نوعين مختلفين فنياً؛ الأول هو وثائقي من إخراج سامانثا ستارك بعنوان Framing Britney Spears، والثاني هو فيلم الساتير الكوميدي I Care a Lot للبريطاني جوناثان بيلكسون والذي تعرضه "نتفليكس".
ومع اختلاف الحكايتين في كلا الفيلمين، إلا أنهما يتناولان قضية الوصاية السابقة، تلك التي يصادر فيها حق الفرد في إدارة حياته، ويعين له شخص مسؤول عن ذلك، من دون أن تكون له أي يد في الأمر، بل وحتى من دون أن يحضر جلسة المحاكمة التي تقرّ عدم أهليته، ليتحول إلى دمية بيد الوصي الذي قد يستزف أموال هذا الفرد وجهده، بغض النظر عن طبيعة مستواه الاجتماعي وحقيقة "أهليته".
تتحوّل المؤسسة الطبية في الفيلمين إلى أداة يسهل التلاعب بها
ما يثير الاهتمام في الفيلمين، بداية، هو مفهوم "النموذج"؛ أي تلك الخصائص التي يجب أن يتمتع بها الفرد والتي تجعله منيعاً ضد الوصاية، وهي إن حاد عنها، يظهر هذا النظام كأسلوب للتقويم من أجل العودة إلى النموذج الرسميّ. ففي Framing Britney Spears، خالفت نجمة البوب بريتني سبيرز نموذج "الأم التقليديّة"، إلى جانب تعرضها إلى ضغوط الشهرة التي دفعت بها إلى حد الانهيار. هنا، يظهر نظام الوصاية بوصفه مدافعاً عن الأسرة ورأس المال؛ فسبيرز أم غير ملائمة ومديرة فاشلة لمشاريعها، ما تركها تحت وصاية لأكثر من عشر سنوات حتى الآن، ودفع محبيها إلى الاحتجاج على الأمر، خصوصاً أن الوصي عليها هو والدها الذي يتحكم بأموالها وقرارتها الشخصية، بل حتى بمن تتواصل معهم في الخارج.
ذات الأمر نراه في فيلم I care a lot، بالرغم من الصيغة الكوميدية التي يحويها، إلا أن النموذج المقدم هنا هو الكبار في السنّ، أولئك المتقاعدون الذين يصفهم الفيلم بالضحايا الذين من السهل الإيقاع بهم، عبر التشكيك بصحتهم العقليّة، وعزلهم في مراكز الإيواء من أجل استنزاف مدخراتهم.
هذا ما تنجح فيه بطلة الفيلم مارلا غرايسون، المحتالة التي تظهر كالحيوان المفترس الذي يتربص بطريدته، لكن المفارقة أن نموذج "المتقاعد العجوز" يخفي وراءه الكثير، خصوصاً حين نعلم أن العجوز التي تم احتجازها ليست إلا والدة واحد من أكبر رجال المافيا الروسية، وهي تختفي وراء هذه الشخصية، التي تبدو كقناع فعال لم تتمكن حتى "الدولة" من اكتشاف حقيقته، فتدخل مؤسساتها؛ إذ تمكنت غرايسون من الإيقاع بالعجوز؛ زعيمة المافيا، من دون أن تعرف السلطات الحقيقة وراء الامرأتين.
هذه المصادرة للحقوق الفرديّة القائمة على أساس "عدم الأهليّة"، لا يمكن التراجع عنها، وهذا ما نراه في حالة سبيرز؛ إذ يُعزل الفرد ضمن شروط قاسية، ويتم التحكم بأسلوب ظهوره وتفاعله مع المحيط، كي يتمكن الوصي من الحفاظ على شكل النموذج الجديد، "الفرد الفاقد للأهليّة". ولا يمكن لهذا الفرد لاحقاً، إن افترضنا أنه "تعافى" أو "عاد إلى أهليته"، أن يستعيد السيادة على وقته وحياته الشخصيّة، وهذا ما نراه في كلا الفيلمين، بمجرد أن يصدر القرار القضائيّ لا يوجد أسلوب لأجل النظر فيه بحجة عدم الأهليّة.
يتضح في كلا الفيلمين دور المؤسسة الطبيّة، وكيفية تحولها إلى أداة من السهل التلاعب بها. يتضح ذلك بأسلوب التشخيص والحكم على "أهلية الفرد". ففي فيلم I care a lot، تتم المبالغة والتلاعب في التقرير الطبي، لوسم العجوز بأنها فاقدة للأهلية. وفي حالة سبيرز، بقي التقرير سرياً، لكن لا يمكن التيقن من أنها قادرة على الاعتناء بنفسها إلا بعد تأكيد الوصي عليها ذلك، وهذا ما لن يحصل.
ما سبق يعني أن كلام سبيرز والعجوز وآراءهما بلا معنى أو قيمة، وكأن اللغة، هنا، تفقد قدرتها التواصلية، ولا تمتلك الجديّة الكافية لإعلان الأهلية، ناهيك عن الأفعال والتصرفات التي تتحول إلى وسائل إدانة لا تبرئة، خصوصاً أن المؤسسة الطبية تحكم على الفرد خارج السياق الذي هو فيه، وتفترض حالة ثابتة من الوعي والأهلية لا يمكن أن تتهدد.
هذا ما حصل مع سبيرز بمجرد الشك بصحتها النفسيّة، إذ حُكم عليها كـ"مريضة" ما زالت إلى الآن معزولة عن العالم الذي يتحكم به والدها الوصي والطبيب والقاضي. ثلاث قوى إن اجتمعت لا توجد أي وسيلة للوقوف في وجه أحكامها، بالرغم من المتظاهرين المتجمعين على باب المحكمة، والنظريات التي تقول إن سبيرز تبعث برسائل مشفرة إلى معجبيها عبر إنستغرام.
يقدم لنا كلا الفيلمين أمثلة عن كيفية تحول أجهزة الدولة (المحكمة، المستشفى، الشرطة...) إلى أدوات لمصادرة سيادة الأفراد على أنفسهم. أدوات يمكن توظيفها بحذق أحياناً لسلب فرد ما حريته الشخصيّة، سواء كان هذا الفرد عجوزاً، أو نجمة بوب.. كلتاهما أمام "الدولة" فاقدتان لأهليتهما بناء على آراء أشخاص لا تربط بينهم أية صلة. بل وصل الأمر في حالة سبيرز إلى تحليلها نفسياً عبر صور الباباراتزي، وهنا تظهر وسائل الإعلام وقدرتها على انتهاك الأفراد، ورسم صورة خاطئة عنهم قد تؤدي إلى تطابق الأفراد معها، وكأن "العدسات" تنحت في لحم الشخص ودماغه لتغير من طبيعته وكيفية إدراكه لذاته.