الموسيقيون الروس... لم يعد في الغرب متّسع للصمت

09 مارس 2022
شجبت السوبرانو آنا نيتريبكو غزو أوكرانيا وألغت مشاريعها (جاك فارتوغين/Getty)
+ الخط -

أُغلقت الأبواب، فالعرض قد بدأ. أُغلقت أبواب المسارح والصالات في وجه الفنانين الروسيين بقرارات اعتباطية من مموّلين ومديرين غربيين، باتوا يشترطون على الروسيين شجب قرار "رئيسهم"، كي يُسمح لهم بمواصلة فنّهم. هم روس قبل أن يكونوا فنانين. هذا ما يبدو عليه الأمر في موجات التخبّط التي تجتاح المسارح الغربية.

كان طرد المايسترو الروسي فاليري غيرغييف من قيادة أوركسترا ميونخ الفلهارمونية سهلاً، بل "مفهوماً" لدى البعض. فالرجل مقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عقود، ومتوافق مع جميع قرارات صديقه الرئيس، بل إنّه أحيا حفلات في المناطق التي "ظفرت" بها قوات بوتين؛ إذ قاد حفلة في أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008، وأخرى في تدمر في سورية عام 2016 بعدما استعاد النظام وروسيا السيطرة عليها. والآن، طُرد من قيادة أوركسترا ميونخ لأنّه لم يشجب غزو أوكرانيا.

حالة السوبرانو الروسية آنا نيتريبكو أعقد. مع أنّها شجبت غزو أوكرانيا، إلّا أنّها لم "تتبرأ" من دعمها السابق لبوتين، فألغت مشاريعها الموسيقية بمبادرة شخصية، رافقتها ضغوط متلاحقة من صالات ومسارح عدة.

مع تعاظم الإدانة العالمية لقرار الكرملين غزو أوكرانيا، فوجئ المتابعون بأخبار موسيقية متلاحقة بسرعة فاقت سرعة شريط الأخبار السياسية والعسكرية العاجلة. شُنّت حملات على الموسيقيين الروس كي يُبدوا موقفاً واضحاً من الغزو. لم يعد "النأي بالنفس" أو الصمت كافياً؛ فالصمت قد يُفهم موافقةً ضمنية. لا بد للموسيقيين الروسيين من إعلان موقف واضح الآن، ومن الاعتذار عن أيّ موقف سابق دعموا فيه أي قرار من قرارات بوتين، في عمليات "كشف حساب" يبادر إليها مديرو ومموّلو الصالات والمسارح الغربية؛ إذ وصل تداخل الفن والسياسة إلى حدود غير مسبوقة، حين بات كلّ ما هو روسيّ مُداناً حتى لو كان عملاً موسيقياً تجاوز عمره 150 عاماً، مثل أوبرا "بوريس غودونوف" للموسيقي مودست موسورغسكي، المستندة إلى مسرحية ألكسندر بوشكين الشهيرة التي ألغت الأوبرا الوطنية البولندية عرضها "تضامناً مع شعب أوكرانيا".

شُنّت حملات على الموسيقيين الروس كي يُبدوا موقفاً واضحاً من الغزو

"إنّنا نواجه وضعاً جديداً بالمطلق"، يقول أندرياس هوموكي، المدير الفني لأوبرا زيورخ، إذ باتت الاعتبارات غير الفنية شرطاً مسبقاً، بعدما اجتاحت السياسة كلّ شيء، أكثر حتى من حقبة الحرب الباردة التي شهدت تبادلاً ثقافياً طوال عقود، كان فيها الفنانون يتجوّلون بحريّة شبه مطلقة بين الاتحاد السوفييتي والغرب.

في أوج الحرب الباردة، شهد عام 1958 مفاجأة صاعقة حين فاز عازف البيانو الأميركي فان كليبيرن بجائزة تشايكوفسكي الدولية التي تُجرى في موسكو. صُوّرت المفاجأة بأنها إشارة إلى أنّ الفن قادر على تجاوز الاختلافات السياسية. ولذا، أعلنت "مؤسسة كليبيرن" التي سُمّيت باسم العازف الأميركي أنّها ستستقبل 15 عازف بيانو روسياً في الأيام القادمة للمشاركة في مسابقة كليبيرن هذا العام، مع إشارة إلى أنّ هؤلاء الفنانين ليسوا ممثّلين رسميّين عن حكومتهم. وصرّح جاك ماركيز، مدير المؤسسة التنفيذي، بأنّ هذه الخطوة شديدة الأهمية اليوم في ظل الإقصاء الذي يتعرض له الفنانون الروس، "في وسعنا مساعدة العالم حين نتمسك بموقفنا ونركّز على الموسيقى وعلى الفنانين".

لكنّ الحرب الباردة انتهت وبدأت حرب ساخنة فرضت شروطًا جديدة. كان كلايف غلنسن، المدير الفني لصالة "كارنيغي"، قد صرح العام الماضي بوجوب منح الفنانين حرية كاملة في إبداء آرائهم السياسية: "لمَ ينبغي على الفنانين أن يكونوا الوحيدين في العالم الذين لا يُسمَح لهم بامتلاك آراء سياسية؟" مدافعاً عن استضافة فاليري غيرغييف هذا العام.

فجأة، انقلب غلنسن على أفكاره، وألغى حفلات لغيرغييف وعازف البيانو الروسيّ دنيس ماتسويف، بسبب قربهما من بوتين، مبرّراً قرار الإلغاء بأنّ الغزو قد غيّر كلّ شيء، ولم يعد هناك مكان لداعمي بوتين، لكن مع الحرص على "التمييز" بين من يدعم بوتين ومن يُضطر إلى الصمت؛ إذ "لا يمكن طلب المستحيل من الفنانين الذين يعيشون داخل روسيا". موقف غانسن قريب من موقف عازف البيانو الروسي يفغيني كيسين، المقيم في براغ، والذي يرى أنّ دعم الفنانين الروس المقيمين داخل روسيا لبوتين "أمر طبيعي"، إذ تعتمد مؤسساتهم على دعم الدولة، غير أنّ البعض تجاوز الحدّ حين بقي على موقفه حتّى بعد الغزو، وأكّد وجوب إقصاء هؤلاء الفنانين عن "مسارح العالم المتحضّر"؛ لأنّهم باتوا داعمين لحرب إجرامية يشنّها "ديكتاتور وقاتل".

فضّلت مؤسسات أخرى "رقابة" من نوع آخر، إذ سيلتزم القائمون على مهرجان فيربييه الصمت حيال الفنانين الذين لا تُعرَف لهم آراء سياسية سابقة، غير أنّهم سيمنعون الفنّانين الذين اصطفّوا صراحةً مع أفعال الحكومة الروسية، من دون توضيح معايير وماهية هذا "الاصطفاف". فيما مالت مؤسسات أخرى إلى إراحة رأسها من الإشكاليات، حين ألقت بالمسؤولية على "الجمهور"، إذ برغم تأكيد أندرياس هوموكي نفوره من تدخّل السياسة الفجّ في الفن، إلا أنّه "قد يُضطر" إلى إلغاء حفلات فنانين إذا واجهَ معارضةً شعبيّة قويّة، أو إذا أبدى زملاؤهم مخاوف حيال آرائهم السياسية.

سيلتزم القائمون على مهرجان فيربييه الصمت حيال الفنانين الذين لا تُعرَف لهم آراء سياسية سابقة

واستَبَقت ليلا غتس، المديرة الفنية لمؤسسة "فانكوفر ريسايتل سوسايتي"، آراء الجمهور حين قررت إلغاء حفلة لعازف البيانو الروسي ألكساندر مالوفيف، وأوضحت موقفها حين تعرّضت لهجوم قوي بأنّها "قلقة" من رد فعل الجمهور على استضافة عازف روسي، وأضافت: "لمَ ينبغي عليّ جلب عازف بيانو روسي عمره عشرون عامًا إلى فانكوفر لأجعله يواجه احتجاجات وسوء تصرفات من جمهور داخل القاعة؟".

وكذلك فعلت سيمفونية أنابوليس في ميريلاند الأميركية، حين أعلنت استبدال عازف الكمان الروسي فاديم ريبين، الذي كان من المُقرّر أن يعزف كونشيرتو لشوستاكوفيتش في حفلات قادمة "احترامًا لموقف ريبين غير السياسي، وخشية على سلامته وسلامة عائلته".

ماذا سيكون مصير "التبادل الثقافي" في جو الإقصاءات المتبادل هذا؟ ماذا بشأن الفنانين الذين يقسمون حياتهم بين روسيا والغرب؟ أسئلة ملحّة لدى فنانين عديدين، من بينهم توغان سوخييف، المدير الفني لمسرح البولشوي وقائد الأوركسترا الوطنية في تولوز الذي واجه ضغوطًا لإبداء "موقف صريح" حيال الحرب قبل إقامة أي حفلة جديدة في المستقبل. اختار سوخييف الخيار "الأسلم" حين أعلن الأحد الماضي، في صفحته على "فيسبوك"، استقالته من كلا المنصبين. "بما أنّني أُجبرت اليوم على مواجهة الخيار المستحيل كي أختار الموسيقيين الأحباء الروس أو الفرنسيين... قرّرتُ الرحيل"، مشيراً إلى أنّ الموسيقيين اليوم "ضحايا ما تُسمى 'ثقافة الإلغاء'".

لعلّه الخيار الأسلم اليوم، لكن ماذا بشأن الغد؟ يرى سايمون موريسن، أستاذ الموسيقى في جامعة "برنستون"، أنّ الغرب سيخضع لبوتين أكثر حين يُمعن في الاستقطابات، وفي المنع، وفي الرقابة، أما سوخييف فيُبدي خشيته المُبرّرة من أنّه سيُضطر غدًا إلى الاختيار بين تشايكوفسكي وسترافنسكي وشوستاكوفيتش وبين بيتهوفن وبرامز وديبوسي، في حملة غريبة يتحكّم فيها مديرو المسارح و"الجمهور".

المساهمون