الموسيقى المستقلة في مصر... حكايات ما بعد 2013 (2/2)

13 يناير 2021
حُظر النشاط الفني والموسيقي في الميادين المصرية والفضاءات العامة (Getty)
+ الخط -

في عام 2013، وفي السياسة كما في الموسيقى، بدا أنّ مصر عادت إلى مطلع الألفية الجديدة، إلى سنوات الحكم الدكتاتوري في السياسة، وسنوات البوب التجاري في الموسيقى. كأنّ السنوات القليلة الأخيرة كانت مجرّد فاصل، فسحة لنسمات تغيير، سرعان ما سكنت. 

تراجعت الأغاني السياسية التي رفعتها الفرق المستقلة بعد الثورة، ليعود مغنو البوب ويمسكوا بزمام المبادرة: من "تسلم الأيادي" إلى "بشرة خير". أغانٍ "وطنية" باتت تبثّ في الأفراح والخطوبات، وعلى الشواطئ وفي سيارات المارة... وأمام لجان الانتخابات طبعاً.

وبعيداً عن عشرات التفاصيل المرتبطة بهذه الأغاني، والسياسة العامة التي أرسيت في البلاد، أصبح كل من لا يرقص على "تسلم الأيادي"، مشتبهاً به. في هذه السنة تحديداً، أدركت الفرق أنها تحتاج إلى تغيير المحتوى الذي تقدّمه، للعثور على شرائح جديدة من المستمعين، والبقاء على الساحة الفنية، وإن بزخم أقلّ. فالكلام المنبثق من الثورة والقيم التي أرستها، بدأ يتبدّد أمام دموية المشهد المصري والانقسام الحاد في الشارع.

أذكى من نجح في ذلك التغيير كان فريق "كايروكي"، الذي بدأ يقدّم لوناً مختلفاً؛ فتعاون مع عبد الباسط حمودة في "غريب في بلاد غريبة"، ثم طارق الشيخ في "الكيف"، وهو ما شكّل فارقاً كبيراً في انتشار الفرقة. فلو تابعت في تلك المرحلة تقديم موسيقى الروك المراهق أو "روك الهاي سكول"، لكان انتشارها تلاشى حتى اختفى تقريباً، خصوصاً أن هذا النمط الموسيقي في طريقه إلى الانقراض في العالم، علماً أن أوّل من أرسى هذا التعاون بين الفرق المستقلة والمغنين الشعبيين كانت فرقة "افتكاسات"، حين قدمت مع حجازي متقال أغنية "فدادين" في ألبوم "دندشة". لكن الأغنية لم تنتشر كحال أغاني كايروكي.

في عامي 2015 و2016، وبينما كانت الموسيقى المستقلة تعيد تشكيل هويتها وتحاول البقاء على الساحة، عرفت ثلاث فرق ذروة نجاحها وانتشارها: "كايروكي"، و"مسار إجباري"، و"شارموفرز". وقد نجحت الأخيرة في إثبات وجودها الموسيقي بصوت مختلف عن كل الفرق التي سبقتها في مصر، ويمكن مقارنتها بشكل أو بآخر بتجربة الراحل طلعت زين .

عامل آخر ساهم في بقاء هذه الفرق في صدارة المشهد، وهو الماركتينغ الذي رافق عملها، فبدأت الترويج لـ"إرثها" على ساحة الموسيقى البديلة، من خلال إحياء حفلات بمناسبة مرور 10 أو حتى 15 سنة على تأسيسها، وساهمت هذه الدعاية بشكل كبير بنجاح حفلاتها بشكل كبير، سواء في ساقية الصاوي أو في أماكن أخرى مثل "كايرو فيستيفال سيتي".

ثمّ جاءت حفلة فرقة "مشروع ليلى" اللبنانية، حين رفعت أعلام قوس قزح، ليبدأ الإطباق التدريجي على الحفلات الكبرى في مصر، ويبدأ عصر آخر من عصور التضييق على الموسيقى المستقلة.

اضطر الفنانون مجدداً إلى إيجاد مخرج لهم، بعدما تحوّل موضوع تنظيم حفلة كبيرة، أو إنتاج ألبوم وبيع سيديهات مهمة، شبه مستحيل. انتقلت اللعبة بشكل تام إلى الفضاء الافتراضي، وبات معيار النجاح هو عدّاد المشاهدات على "يوتيوب". وبناء على هذا المعيار، عادت شركات الاتصالات لتختار نجومها في مواسم الإعلانات المختلفة. 

عدّاد المشاهدات هذا، هو الذي فتح المجال أمام ظهور أنواع موسيقية ونجوم أغنية جدد. سطع نجم مغني المهرجانات، ثم الراب والتراب. وباتت أسهمهم الشعبية ترتفع، خصوصاً أن إنتاج هذا النوع من الموسيقى غير مكلف إنتاجياً. فبدل مساحات العرض الكبيرة، ووجود أربعة أو خمسة أفراد يؤلفون فرقة، لا يحتاج مغني المهرجانات أو التراب سوى إلى لابتوب وميكروفون وصوته. فالأنماط الموسيقية هذه تستخدم الأوتوتيون، والـ EDITING بشكل رئيسي، بني عليه هذا النوع الموسيقي. كما أن الإيقاعات المستخدمة هي عبارة عن نماذج (samples) مسجلة مسبقاً وموجودة داخل مكتبات برامج تحرير الصوت، وأشهرها في هذا المجال fruity loops.

أما بالنسبة للمواضيع التي تعالجها هذه الأغاني، فهي بشكل عام مناسبة لشعب/شعوب مقموعة، كما هي حال الشعب المصري. أغانٍ تقنع المستمع بأنه يتمتّع بقوة غير موجودة في الحقيقة: أنت البطل/القوي/النظيف مقابل الآخر الضعيف/الخائن/المجرم.

وكي تحصد الأغاني التي تعتمد هذا النمط (مهرجانات/تراب/راب)، يجب أن تختار أغاني ومواضيع فاقعة في اصطفافاتها وقطبيتها. وهكذا، تبقى أغاني محمد رمضان، الذي يطل علينا في كل أغنية وهو يحارب أعداءه الوهميين، فهو الرقم 1 الذي يستحيل الانتصار عليه.

لم يبتكر رمضان هذا النوع من التحديات الغنائية ضد أعداء غير موجودين. بل إن هذه القاعدة أساسية في هذا النوع من الموسيقى، ومعروف عالمياً باسم dissing، أي تقليل احترام الخصم الموجهة ضده الأغنية. 

هنا، ظهر الفرْق بين الفرق المستقلة والأنواع الموسيقية الجديدة التي بدأت تزدهر منذ عام 2015. فيمكن لأي فرقة، مثل "كايروكي" أو "شارموفرز"، أن تقدّم أغنية تتحدث فيها عن يوم عادي في حياة أي مواطن، من دون تحديات. بل يمكن أن تذهب أبعد من ذلك من خلال بعض النصائح التي لامست في أحيان كثيرة كورسات التنمية البشرية، لكن ذلك شبه مستحيل في أغنية تراب أو أغنية مهرجانات. وهذا تحديداً ما جعل الجمهور يتّجه تدريجياً نحو الموسيقى التي تظهر القوة والتفوّق، في وقت يعيش في حياته الحقيقة أقسى أنواع القمع والذل والفقر.

تعيش هذه الموسيقى حالياً ذروة نجاحها على كل المستويات، سواءً بأعداد المشاهدات أو العائدات المالية، وكذلك الاستضافة في برامج التلفزيون. يبدو هذا مناسباً للوضع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه مصر. إنتاج موسيقي بلا مضمون سياسي. وهو نوع مرجّح أن يبقى فترة غير قصيرة على القمة، طالما لا أفق بأي تغيير مصري حالياً.

المساهمون