لعبت الأغنية الفلسطينيّة دوراً مركزياً في توثيق قصص وحكايات فلسطينيّة منذ النكبة إلى اليوم، ما جعلها تُشكّل شهادة حقيقية ووثيقة فنّية ناجعة ترصد عطب الاحتلال وأهواله ومكائده.
لكنّ تراث الأغنية الفلسطينيّة، لم يقتصر على هاجس التوثيق والأرشفة والتأريخ، بل ظلّت أصواته وموسيقاه تُحاكي زخم تموّجات الواقع الفلسطينيّ وما شهده من تحوّلاتٍ وتبدّلات، فجاءت الأصوات شجيّة وأكثر تجذراً بخاماتها وقوالبها وكلماتها الموغلة في العراقة الفلسطينيّة وتراثها الشعبي الأصيل. اخترقت الأغنية سير الناس ومصائرهم، وعبّرت عن جُرحهم ومآسيهم في نقد الاحتلال الغاشم. لقد وسّعت الأغنية مفهوم المُقاومة الفلسطينيّة، وأضحت وسيلة للتعبير والنقد. فقد شهدت منذ خواتم السبعينيات تكريساً لهذا النوع من أغاني المُقاومة المُكتسحة بمُعجمها ونموذجها الطوبوغرافية العربيّة. إذ غدت بمثابة شعاراتٍ سياسيّة ترفعها الجماهير العربيّة في وجه الاحتلال الإسرائيلي وأنظمته الديكتاتورية القمعية.
إلّا أنّه ينبغي التمييز بين نمطين من الأغنية: الأول هو الأغنية ذات الارتباط بالحدث السياسيّ، حيث يغلب عليها الطابع الوطني والتحرّري. وظلّت موشومة في الجسد العربيّ، بوصفها تنزع صوب خطابٍ كفاحي وسياسيّ وطني. أمّا الثاني، فهو الأغنية ذات الطابع التراثيّ التجديدي، يستحضر فيه المُؤلّف علامات من الموروث الشعبي، فيُطوّعه تأليفاً وغناءً وعزفاً. لكن مع ذلك، ظلّت الأغنية السياسيّة ذات تأثيرٍ مُتواصلٍ لسنواتٍ عدّة، قبل أنْ يخفت وهجها مع مطالع الألفية الجديدة. آنذاك لم تعُد الأغنية بالنسبة إلى الفنّان الفلسطينيّ مبنيّة على النقد المُباشر، وإنّما تتحكّم في صناعتها عناصر أخرى ترتبط بالترميز والبناء والصورة والآلة الموسيقيّة.
وعلى الرغم من البُعد السياسيّ المحض الذي انطبعت به الأغاني الأولى، فقد بقي بعضها داخلياً أميناً للصنعة وتختزن مُتنفّساً جمالياً واشتغالاً فنيّاً، لا ينضب في استحضار الواقع الفلسطينيّ وتوليفه مع ذاكرة البلد. هذا وتبقى الأغنية السياسيّة الأكثر رواجاً وذيوعاً في هذه المرحلة المُبكّرة من مسار الأغنية الفلسطينيّة. ففيها ستتوثّق علاقة الأغنية بالشعر، حيث سيفتح لها أفقاً جديداً على مستوى التعبير الجماليّ، حتّى وإنّ ظلّت مُرتبطة بأسماء شعريّة بعينها. بيد أنّ الأجيال الجديدة ستكشف عن علاقة مُغايرة بالمتن الشعري الفلسطينيّ، ذلك أنّها ستتعامل مع تجارب معاصرة أقرب إلى ذائقة الإنسان العربي اليوم ومَشاغله وقلقه، ما سيُؤثّر إيجاباً وبشكلٍ مُبطّن في الأغنية الفلسطينيّة الجديدة. لكن بعيداً عن هذا التكوين البنيوي للأغنية، فإنّ مُعجمها ظلّ قريباً من تحوّلات الواقع، مقابل الموسيقى التي حلّقت في سماء الموسيقى العالمية، حيث برزت أسماء فلسطينيّة بدت قادرة على التوليف بين أصالة الكلمة وحداثة الآلة والنغم.
ففي تجربة المغنية ربى شمشوم، يُطالعنا اللحن الفلسطينيّ ممزوجاً بالروك والجاز، لكن بمسحة عربيّة. بيد أنّ الشكل الموسيقيّ عندها يبقى النّمط الغالب في العملية الفنيّة، حيث لا تبدو الموسيقى على ذات المسافة ومنحى الصوت، ما يُفسّر أهميّة التجريب الموسيقي في صناعة مُتخيّل الأغنية الفلسطينيّة. لا تجديد دون موسيقى تفتح آلام الجسد على مَباهجها وألوانها المعاصرة. وهي رحلة طويلة وصعبة بالنسبة إلى الفنّان العربيّ، حيث يكون مُلزماً بالحفاظ على الحساسيّة الغنائية العربيّة، حتّى لا تُصبح أعماله مجرّد نسخة مُصغّرة عن الغرب. إنّ الأغنية عند ربى شمشوم، تأخذ مُنعطفاً آخر، يستند إلى التجريب الموسيقيّ كمُحاولةٍ لإبراز الصوت. إنّها بطريقة ما تُجرّب كيْ تُبدع وتمزج الآلات الموسيقيّة المعاصرة حتّى تُكسّر سُلطة النموذج القائم. إلّا أنّ تجربتها الغنائية بقدر ما تتباعد على مستوى التجريب والتوليف الموسيقيين، فإنّها تبقى ذات علاقة وجدانية على مستوى الانتماء إلى الواقع. وإنْ كانت مُنطلقاتها التأليفية نابعة من الذات الفرديّة وهواجسها وأحلامها.
لا شك في أنّ أوّل توجه فنّي تنطبع به الأغنية الفلسطينيّة الجديدة، هو تنوّعها وغناها داخل المنطقة الواحدة. فهذا التعدّد يُشكّل عامل نجاحٍ في ذيوعها. ذلك أنّه يُضمر في طيّاته وعي الفنّان بجسده وذائقته وتاريخه وواقعه. فهو لم يعُد أسير الشعارات السياسيّة والأناشيد الثورية، بل غدا الواقع مُختبراً للتجريب الغنائي والجسد آلة موسيقيّة يقيس بها حجم الجُرح وفداحة الواقع. كذلك فإنّ الأحداث لم تعُد تعنيه، إلّا بوصفها مُؤثّراً برانيّاً في الذائقة الغنائية. لذلك، يُطالعنا الواقع في أغاني شادي زقطان كدافعٍ غنائي، حيث ترتكز الأغنية على نوعٍ من الحكي أو البوح الوجداني الشجيّ الذي يختزن آلام الواقع، حيث للكلمة حضورها البهي، ويزيدها جمالاً صوت شادي زقطان المُتقطّع. فهو يُغني لا لينسى، بل ليتذكّر ويحلم وتتألّم غيتارته فتبوح بما لا يُرى داخل الواقع الفلسطيني.
لكن مع المغنية سناء موسى، يُصبح التراث ملاذاً جمالياً تحتمي به الذاكرة من مآزق حاضرٍ مُتبدّل. ورغم اعتماد سناء موسى على جماليّات الصوت في محاولة التعبير، فإنّ شادي زقطان، يمنح لغيتارته بُعداً تكميلياً وجمالياً.