لا يبدو الطابع الموسيقي داخل الملاهي الليلية في سورية مرتبطاً بذوق ونمط محدد، بقدر ما هو مرتبط بثقافة اجتماعية وسياسية أثّرت بها عوامل تاريخية في نشأة الموسيقى الشعبية داخل البلاد. ننظر إلى هذه العوامل من خلال الانقسام الثقافي الذي أثر على صناعة الموسيقى، وصعودها ما بين الشمال السوري وجنوبه، بتتبع الحركة السياسية والاجتماعية التي نمت بذورها مع خضوع البلاد لحكم حزب البعث السوري ستينيات القرن الماضي.
أفرزت تلك المرحلة مفاهيم طبقية شرحت المجتمع السوري، بين أرياف مهمشة ومدن كبرى مركزية، تعمل بما يناسب مفاهيم السلطة وأدبياتها، ليصبح لدينا نظام بنيوي تحددت من خلاله علاقة الشعب مع الدولة وقطاعاتها. تأثر القطاع الموسيقي بهذه العلاقة. ودخل في أزمة هوية تحجمت معها مفاهيم التطور والإبداع، على حساب المناطقية بشكل بارز. ظهر ذلك من خلال بعض البرامج الإذاعية التي اعتمدت على بث تجارب الجوار من أنماط غنائية، سوغت هذا الانفصال الثقافي بينها، وحددت معالم التجربة الموسيقية بمعالم اجتماعية وفكرية، نتج عنها نزعة المدن الكبرى في إعلان تفوقها بما يسمح لها بالحط من شأن الثقافة الريفية. فكانت معظم الإذاعات التي أخذت تنتشر في الثمانينيات والتسعينيات تبث أغنيات ذات صبغة شعبية (سترايك اللبنانية، ودمشق في الجنوب السوري والساحل)، وأخرى طربية (حلب في الشمال)، مبتعدة عن أغاني الأرياف (الأغاني الفلكلورية والبدوية والجزرية والسواحلية) التي انحصر دورها في الحفلات والأعراس الشعبية وصالات الملاهي الليلية.
من خلال هذه التقسيمات، برزت الملاهي الليلية كرد فعل على القيود الغنائية التي، وإن كانت خاضعة لأدلجة تناسب الذوق السياسي والاجتماعي لمفاهيم السلطة وتبرر عظمتها وحكمها، رسمت خطّاً خاصاً بها بعد انفتاح البلاد على ثقافة الديجيتال، وانتشار الإنترنت الذي ساهم في سهولة انتشار أنماط غنائية متنوعة داخل المدن والأرياف، ثم انتقالها إلى الملاهي المغلقة، لتتابع وجودها بشكل أكبر مع انفتاح سوق السياحة الليلية أمام السياح من دول الخليج، بسبب سهولة اللغة الغنائية وتقارب اللهجات المألوفة بينها وبين الأرياف الشرقية، خاصة كالغناء باللهجة العراقية والفراتية والبدوية.
تتمتع هذه الملاهي بخصوصية ثقافية واجتماعية وسياسية، ولا سيما تلك المنتشرة في دمشق وريفها التي لها الحصة الأكبر في استقطاب رجال الدولة وسياسييها، وصغار ضباطها، إلى جانب شرائح مختلفة من المجتمع السوري، وهو خليط لا يمكن وصفه بالعشوائي، باعتبار أهمية هذه الأمكنة وقدرتها على مزج الموسيقى والغناء بالوعي الاجتماعي والثقافي لهذا الخليط، والمحافظة على هذه التركيبة بالقدر الذي يسمح لها بانتشال السوري من واقعه وحياته اليومية، تحت وصاية أمنية، هي بدورها تتطلب منفذاً لها لا تقدمه سوى هذه الملاهي.
لذا، فإن هذا المزج يقترب إلى نزعة رقابية أكثر منه ترفيهية. رقابة على الشعب ومزاجه وسلوكه. وعلى الموسيقى والأغاني التي لا تناسب عقلية النظام السوري أو تخالف عقيدته، وهذا ما سيلاحظه أي زائر أو وافد إلى تلك الملاهي حيث لن تمر ساعة واحدة من الوصلات الغنائية، من دون أن نسمع أغنية أو موالاً يبجل أو يتغنى بحافظ الأسد أو ابنه بشار. أما عن النشاط الغنائي في تلك الصالات، فلا بد لنا من اتباع النمط التعريفي له من حيث الشكل والمضمون. فعلى الرغم من أننا أمام مجتمع مصغر منغلق على مفاهيم غنائية ملونة، فإن لغة الاستماع فيها بالكاد تتكيف مع الرغبة الموسيقية، وبالتالي مع التجربة الموسيقية التي لا تقترب من تحقيق نموذج متقدم في صناعة الموسيقى وتطورها. فمعظم الأغاني المطروحة التي يمكن أن يقدمها مغنون مغمورون أو هواة، لا تعبر عن حالة فنية خاصة، أو مقصدًا للتذوق الموسيقي.
هكذا، يمكن اعتبارها مجرد موسيقى هامشية لا تصلح لبناء فضاء موسيقي يجذب هواة الفن والموسيقى، والاستمتاع بالكلمات والألحان، كحال مجالس الطرب والسمر المألوفة لدى أهالي حلب ودمشق، بل يمكن وصفها بالموسيقى العشوائية التي تحمل نشازاً وصخباً تناسب واقع السوريين الهاربين من طواحين الحياة وتماثله. والتي يزيد في تشوهها فواصل التبجيل والإشادة بين الزبائن، وتبادل التحيات المتملقة بين صغار الضباط وصغار الكسبة وأصحاب الأموال.