أعلنت فرقة Big Thief، أخيراً، عن إلغاء حفلتين موسيقيتين في تل أبيب، في نادي Barby، بعدما كان من المقرر أن يقام هذان العرضان في السادس والسابع من يوليو/تموز المقبل، وفق ما أوضحه منشور ترويجي، نشرته الفرقة على حسابها الرسمي على إنستغرام.
وأوضحت فرقة الروك المستقلة، عبر ذات المنشور، أنها تنوي الذهاب إلى تل أبيب لأداء الموسيقى، في مكان توجد فيه العائلة، مشيرة إلى أن دولة الاحتلال هي "مسقط رأس" ماكس، واحد من أعضاء الفرقة الرئيسيين. وأكد المنشور على فهم الحساسية التي قد تنبع عن مثل هذا القرار: "ليست نيتنا التقليل من قيم أولئك الذين يدعمون المقاطعة، أو غض الطرف عمن يعانون. نحن نسعى جاهدين إلى التحلي بروح التعلم". وعلى الرغم من أن Big Thief تعهدت بالتبرع بأرباح الحفلات إلى المنظمات غير الربحية التي تساعد الأطفال الفلسطينيين، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لجماهير الفرقة التي ثارت على ذلك القرار، ودعت إلى تهميش موسيقى Big Thief، ووضع أعضائها على اللائحة السوداء، ما دفع الفرقة إلى الانسحاب عن قرارها بالأداء في دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد أسبوع فقط من الإعلان عنه، مضيفة أنها "تعارض الاحتلال غير الشرعي والقمع الممنهج للفلسطينيين".
لم يمر انسحاب الفرقة عن الأداء من دون رد غاضب من موقع نادي Barby، حيث كان من المقرر أن يُقام الحفل، فأوضحت وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالنادي، أن الفرقة هي التي تواصلت معهم لتحديد موعد العروض، وأنها تصرفت "بضعف" أمام "متظاهرين مأجورين".
ليست تلك أولى الضربات الموجهة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال سعيها الحثيث لإنتاج ثقافة هشة، هدفها الأول هو تبييض وتبرير ممارسات نظام الاحتلال والفصل العنصري، وتغطية مجازره المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وصولًا إلى ما نشهده اليوم من محاولات بائسة، وصفت بـ "الغسيل الزهري"، خلال ما أطلق عليه اسم "شهر الفخر".
لا تتلمع الصورة أبدًا، ويرفض اليوم آلاف من الفنانين في جميع أنحاء العالم تقديم عروضهم في إسرائيل، بما في ذلك مجموعة نجوم عالميين، مثل روجر ووترز و"بينك فلويد" ولورد ولانا ديل راي، ويُطلب من المساحات والمهرجانات الدولية رفض الرعاية والتمويل اللذين يقدمهما الكيان المحتل، انسجامًا مع محاولاته العديدة لصنع دعاية أو سردية مغايرة لتلك التي بات يعرفها الجميع.
تأتي المقاطعة الثقافية، وأكثرها بروزًا تلك الموسيقية، كجزء لا ينفصل عن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة في الغرب اختصارًا بـ BDS. وهي حركة بدأت نشاطها في عام 2005، يقودها فلسطينيون ضد نظام الفصل العنصري، تدعو إلى المقاطعة الأكاديمية والثقافية، وتطالب الفنانين العالميين والشخصيات الثقافية برفض التواطؤ مع الفصل العنصري الإسرائيلي، من خلال مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، ما لم تعترف بالحقوق الشاملة للشعب الفلسطيني وللشعوب الأخرى التي نالت حصتها أيضًا من انتهاكات الكيان.
تتماشى حركة المقاطعة تمامًا مع القانون الدولي، ومع قرار الأمم المتحدة رقم 194، وهي تمثّل دليلًا منهجيًا للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة تعريف المصطلحات وتوضيح الالتباسات، التي قد تنتج عن مفهوم المقاطعة، ويمكن حصرها في النهاية في وسيلة ضغط سياسية وقانونية، تعتمد السلمية لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، وتهدف إلى التضييق على الكيان الاستيطاني ومواجهته بأخطار استراتيجية تهدد بعزله ثقافيًا وسياسيًا وأكاديميًا عن العالم.
تهافت الفنانون من شتى أنحاء العالم، خاصة في الآونة الأخيرة، للانضمام إلى حركة المقاطعة، سواء عبر توقيعهم على بيانات عامة دعمًا للمقاطعة الثقافية، في كل من كندا وسويسرا ولبنان والولايات المتحدة، أو تبنيهم لمبادئ الحركة وإلغاء عروض كان من المقدر لها أن تحدث في دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتزداد يوميًا صعوبة جذب الفنانين المشهورين إلى الأداء في دولة الاحتلال الإسرائيلي، فمنهم من ألغى عروضًا كانت مقررة، أو رفض مشاركة مترقبة حتى مع تلقيهم عروضًا مالية باهظة، مثل ماريانا وفرقة U2 وبيورك وسنوب دوغ وبورتريكو كوارتت، وغيرهم من الموسيقيين البارزين في الغرب. أما عربيًا، فوقف عديد من الموسيقيين والمغنين كمدافعين أشداء عن ثقافة المقاطعة، ومنهم ريم بنا وأميمة خليل ومارسيل خليفة.
ترجح، حتى الآن، الكفة إلى جهة المقاطعة، ويزداد الوعي بفضل جهود حركة BDS بالاضطهاد الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني يوميًا. الصمت ليس خيارًا أمام فناني اليوم، وخاصة الموسيقيين، الذين تحارب مهنتهم الصمت بالمعنى المجازي والفعلي، وتعد امتدادًا مستمرًا للخطاب السياسي، خلافًا لما أرساه المؤلف الموسيقي الشهير شونبيرغ: "نحن، الذين نعيش في عالم الموسيقى، ليس لدينا مكان في السياسة، ويجب علينا أن نعتبرها غريبة عن كياننا. نحن سياسيون، نتطلع في أحسن الأحوال، للبقاء صامتين في الخلفية". يتجرأ موسيقيو اليوم، بعكس أسلافهم، على اقتحام مساحات الصمت، ويلجأون إلى الموسيقى بوصفها وسيلة احتجاج ومعارضة واضحة.
وبعيدًا عن موقف الفن والفنانين، تشتبك مفاهيم المقاطعة الثقافية بشكل أكبر مع الإدارات الثقافية ومع الاقتصاد الإبداعي؛ إذ يقف فنان اليوم أمام سؤال أخلاقي بقدر كونه اقتصاديًا، ويجد نفسه مسؤولًا عن تتبع المال ومموله، فطالبت حملة المقاطعة في مهرجان "إدنبرة فرنج" سنة 2014 بطرد فرقتين ممولتين من الحكومة الإسرائيلية من المهرجان، وأنهى مهرجان ساو باولو صفقة رعاية إسرائيلية بناء على نداءات حملة المقاطعة.
وفي ذات السياق، يُشتبه بمواقف العديد من الموسيقيين ممن أقدموا على مقاطعة الكيان، خاصة بعد إعلانهم المسبق عن حفلات مجدولة، ويُتهمون بتنفيذ الدعاية السيئة عبر الترويج لأنفسهم من خلال قضايا طنانة وإشكالية، أو بالمحاباة لأحد الأطراف السياسية، وبمراضاة الجمهور من دون قناعة أو موقف فعلي، يبرهن التزامهم السياسي أو الأخلاقي.
يصعب سبر أغوار أصحاب المواقف، ويبدو من غير المنطقي، أيضًا، مساءلة من هم على الجانب الصحيح من القضايا المحقة عن وجودهم على ذلك الطرف من الضفة. ولربما أحد أكبر الدروس التي خلفها لنا التاريخ، أنه حتمًا لا يتأثر بالمواقف الميكروسكوبية أو بالنوايا الخفية للأفراد. يكفي أن تخلف تلك الممارسات، مع تراكمها، عائقًا أمام الكيان الاستيطاني الذي يفقد مع كل يوم قدرته على تجاوز ما بات واضحًا أمام أعين الجميع.