- سعيد حميش بن العربي يُقدم "البحر البعيد" في "أسبوع النقّاد"، قصة تعكس الهوية والانتماء لفرنسي من أصل مغربي يعود لبلدته، مُبرزاً المواهب الواعدة في السينما المغربية.
- المشاركة المغربية في "كانّ" تُظهر التطور والديناميكية في السينما المغربية، مع تمثيلية متزايدة تُعزز من مكانتها عالمياً وتُبشر بمستقبل واعد للصناعة السينمائية في المغرب.
مخرجان مغربيان يحضران في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ" السينمائي: أوّلهما نبيل عيوش، مع فيلمه الجديد "الكل يحب تودا"، في فئة "كانّ بروميير"، الذي تؤدّي فيه نسرين الراضي دور امرأة تحلم بشيءٍ واحد فقط: أنْ تصبح "شيخة"، تؤدّي عروضها كلّ مساء في حانات بلدتها الريفية الصغيرة، على أمل ضمان مستقبل أفضل لها ولابنها. لكنْ، بعد تعرّضها لسوء معاملة وإذلال، تقرّر ترك كلّ شيءٍ من أجل أضواء الدار البيضاء.
ملخّصٌّ كهذا حمّال أوجه، يصعب الحكم عليه انطلاقاً منه: هل ينتمي الفيلم إلى سياق أفلام عيوش المعتَمِدة على اختيارات إخراج قوية، وأبعاد إنسانية مؤثّرة، كـ"مكتوب" (1997) و"علي زاوا" (2000)؛ أمْ إلى أفلامٍ تطغى فيها مقاربة الثيمة، ما يجعلها أقل شخصانية، كـ"غزية" (2017) و"علّي صوتك" (2021).
يحضر نبيل عيوش للمرّة الرابعة في مهرجان "كانّ"، بعد مشاركة أولى في قسم "نظرة ما"، في الدورة الـ65 (16 ـ 27 مايو/أيار 2012) مع "يا خيل الله"، الفائز بجائزة "فرانسوا شاليه"، المُكرّسة لقيم الصحافة؛ ثم مع "الزين اللي فيك"، في "أسبوعا المخرجين"، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/أيار 2015). هذه محطّة نتجت منها قضية رأي عام في المغرب، لا تزال تلقي آثارها على التصوّر الجماعي لكل مشاركاته في المهرجانات الدولية، إذْ أثارت صخباً إعلامياً ومجتمعياً غير مسبوق في علاقة المغاربة بسينماهم، بعد تسرّب مقاطع من الفيلم تزامناً مع عرضه في "كانّ"، فانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي سيلٌ لا ينتهي من التعليقات، جزءٌ كبير منها اتّهامات وتخوين وشتائم، وتهديدات بالقتل، بحقّ المخرج، وبحقّ الممثلة الرئيسية لبنى أبيضار، ما أدّى إلى منع عروضه التجارية المحلية.
المخرج الآخر يُدعى سعيد حميش بن العربي، وثاني فيلمٍ طويل له بعنوان "البحر البعيد"، في "أسبوع النقّاد"، بعد "عودة إلى بولين" (2018)، اللافت للانتباه إلى موهبة واعدة بنضجها واستبصارها. في 67 دقيقة، يرسم بورتريهاً غنياً ومؤثراً، لفرنسي من أصل مغربي (برع في أدائه أنس الباز) يعود إلى بلدته القديمة، بعد فترة عمل في أبو ظبي، ليجدها صورة شبحية لما كانته في الماضي، إذْ ترزح في قبضة حزب مشبع بالأيديولوجيا اليمينية. كعيوش، يزاوج بن العربي بين الإخراج والإنتاج، فهو خرّيج قسم الإنتاج في "المدرسة الوطنية العليا لمهن الصورة والصوت" (باريس) المرموقة، لينتج عبر شركته "بارني برودَكشن" فيلمين مغربيين مهمّين العام الماضي: "الثلث الخالي" لفوزي بن السعيدي و"عصابات" لكمال الأزرق، وجديد عبد الله الطايع، المرتقب إطلاقه في الأشهر القليلة المقبلة: "كابو نيغرو".
عيوش وبن العربي وُلدا وترعرعا في فرنسا. اهتم الأول بهويته المغربية منذ أفلامه القصيرة الأولى، المشاركة في الدورة الخامسة (1995) لـ"لمهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، عندما فُتحت أبواب المشاركة لمغاربة المهجر، فبرز جيل من المخرجين أثرى مسار السينما المغربية، كنور الدين لخماري وإسماعيل الفروخي. أمّا بن العربي فموزّع بين رافدي ثقافتيه الفرنسية والمغربية، كما يبرز في فيلمه القصير "الرحيل" (2004): يمضي عادل صيفاً استثنائياً في مغرب 2004، مع أصدقائه، بانتظار دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة لممثله الأعلى العدّاء هشام الكروج. لكنّ وصول والده وشقيقه الأكبر من فرنسا، لتمضية أيامٍ في المغرب يترك أثراً لا ينمحي في حياته.
فيلمٌ مؤثّر، يُثير انطباعاً بمشاهدة فيلم طويل في ثوب فيلم قصير، ويصوّر الماضي برهافة ومسافة صائبة مع الأحاسيس رغم قوتها، خاصةً العلاقة حمّالة لأوجه بين عادل وأمه التي توحي باسترشاد قاسٍ وباكر يعيشه مهاجرون كثيرون. وهذا من دون سقوط في النوستالجيا السهلة. شارك "الرحيل" في نحو 100 مهرجان دولي، في نامور وروتردام وبالم سبرينغز، ونال 27 جائزة، وترشّح لـ"سيزار" الفرنسية (2022).
"البحر البعيد" فاز بجائزة التطوير (15 ألف يورو) في الدورة الخامسة لـ"ورشات الأطلس"، في الدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش": نور (27 عاماً) يهاجر بطريقة غير قانونية إلى مرسيليا، ويحاول مع أصدقائه الجزائريين تدبير أمورهم كما يستطيعون، ويعيشون حياة هامشية لكنها احتفالية. بين 1990 و2000، أحبّ نور، وتقدّم في السنّ، وتشبّث بأحلامه التي تضرّرت بفعل قسوة الهجرة. يتقاسم هذا الملخّص مع "الرحيل" في تموقعه في الماضي، إضافة إلى نَفَسٍ مينمالي، ينبئ بسيناريو يستقرئ، كـ"عودة إلى بولين"، دواخل الشخصية الرئيسية، ويتشبّع بأجواء الفضاء، أكثر من الاعتماد على انقلابات درامية أو حكي خطي، إضافة إلى نزوع نحو كونية الثيمات، وهذا يتقاسمه بن العربي مع كمال الأزرق وصوفيا العلوي ومخرجين شباب آخرين، ويبدو من أهمّ سمات السينما المغربية التي يصنعها الجيل الجديد.
إلى ذلك، تُشارك أسماء المُدير في لجنة تحكيم "نظرة ما"، برئاسة المخرج الكندي كزافييه دولان، بعد فوزها العام الماضي بجائزة أفضل إخراج في البرنامج نفسه (الأزرق نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة يومها)، و"العين الذهبية" لأفضل وثائقي عن "كذب أبيض". وهذا امتدادٌ لحضور مريم التوزاني في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023)، بعد عام على نيل فيلمها "أزرق القفطان" جائزة "فيبريسي" في "نظرة ما".
تواتر تمثيلية غير مسبوقة في المشاركة والتتويج والتحكيم في مسابقات أبرز تظاهرة سينمائية عالمية، يؤشّر إلى ديناميكية نسبية تُحرّك السينما المغربية، سيكون للأعوام القليلة المقبلة دور حاسم في تأكيدها، أو إعطائها تألّقاً عابراً واستثنائياً.