المُشاهدة السينمائية مختلفة بفضل التقنيات: المكان غير مهمّ بل السينما واشتغالاتها

05 نوفمبر 2021
صالة سينمائية: أي فيلم يُعرَض؟ أي مُشاهدة؟ (Getty)
+ الخط -

يؤكّد البعض، في لقاءات وسهرات متفرّقة، حرصه على مُشاهدة الأفلام في صالة سينمائية. الفكرة، بحدّ ذاتها، مُكرّرة، والكتابة عنها أيضاً. لكنّ التأكيد والحرص يستمرّان في كلامٍ، يبدو أنّ قائله يريده لإظهار نفسه "سينيفيلياً"، يحترم طقوس المُشاهدة والسينما وصناعتها.

هذا البعض ينتبه إلى تطوّرات تقنية جمّة، لكنّه يتوق (أو لعلّه يدّعي توقاً) إلى جلوسٍ في صالة معتمة، مع تفضيلٍ لديه بأنْ تكون الصالة خالية من المُشاهدين، أو أنْ يكون عدد هؤلاء قليلاً. هذا يعني أنّ لديه رغبة في امتلاك المُشاهدة في الصالة وحده لا شريك له. وإنْ يعجز عن امتلاك الصالة كلّها، فليكن عدد المُشاهدين معه قليلاً للغاية. إنّه، بهذا، يتخلّى عن امتلاكه لوحده فعل المُشاهدة في منزله، إذْ يظنّ أنّ الـ"سينيفيلية" حكرٌ على الصالة، من دون اهتمامٍ، غالباً، بنوعية الفيلم المعروض، وأهميته السينمائية والثقافية والجمالية والفنية والتقنية.

العالم يتغيّر كلّ لحظة، ما يعني أنّ الأساليب المختلفة للعيش اليومي تتغيّر أيضاً. التقنيات متوفّرة، وهذا منذ زمنٍ بعيد، أي منذ اختراع شريط "في أتش أس"، الذي له فضلٌ كبير على كثيرين، يُصبح بعضهم "سينيفيلياً" محترفاً في مرحلة لاحقة، لإتاحته لهم فرصة مُشاهدة روائع السينما في منازلهم، لا في صالات سينمائية. كلُّ المُختَرَع بعد الـ"في أتش أس" مُفيدٌ، والإفادة تختلف مستوياتها الفنية والبصرية بحسب التقنيات، كاختلاف متعة المُشاهدة أيضاً، رغم أنّها حاصلةٌ في منزلٍ، وعلى شاشة أصغر حجماً من تلك الموجودة في الصالة.

ينسى (أم يتناسى؟) هذا البعض أنّ مدينةً كبيروت غير مُتمكّنة، أقلّه منذ النهاية المزعومة والناقصة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، من إتاحة فرصٍ دائمة لمُشاهدة أفلامٍ قديمة على شاشات كبيرة، إلا نادراً جداً، وفي مناسبات وأمكنة قليلة. نوادي السينما غير موجودة منذ سنين، ومعظمها يُقدّم أفلاماً كتلك ـ في ذروة أعوام اشتغاله ـ على شاشات تلفزيونية، بفضل أشرطة "في أش أس"، أو ما يُشبهها لاحقاً. لا "صالة فنّ وتجربة" تعرض كلاسيكيات على شاشة كبيرة، رغم أنّ تجربة "متروبوليس" في بيروت مثلاً ناجحةٌ في استقطاب مُشاهدين، بفضل أفلامٍ غير تجارية وغير استهلاكية، لكنّها حديثة الإنتاج. أحياناً، تعرض كلاسيكيات، لكنّ تقنيات العرض متطوّرة، والمشترك في المُشاهدة بين القديم والجديد كامنٌ في الشاشة الكبيرة والصالة المعتمة.

 

 

هناك انعدام صلة بين نادٍ للسينما وصالةٍ سينمائية. التجرية الوحيدة في هذا المجال حاصلةٌ في سينما "بريزيدانس" في منطقة "زوق مكايل" (19 كلم شمال بيروت)، في منتصف تسعينيات القرن الـ20. الزميل إدي قسطا يُلحّ على نادٍ للسينما، يعرض أفلاماً قديمة، حضورها راسخٌ في الوجدان والذاكرة والتاريخ والثقافة والنقد، بنسخ 35 ملم، في صالة سينمائية. تفشل التجربة، لأنّ المُشاهدين غير مهتمّين، والموزّعين غير مستعدّين للدعم والتعاون.

مُشاهدون كثيرون، في لبنان والعالم العربي، يعرفون أفلاماً مستلّة من ذاكرة السينما وتاريخها بفضل تقنيات حديثة، تُتيح لهم المُشاهدة في المنزل. القول بالتزام طقوس المُشاهدة وتنفيذه حقّ، لكنّه لم يعد أساسياً في زمنٍ كهذا. صالات لبنان والعالم العربي، قبل كورونا بأعوام عدّة، تكترث بأفلامٍ تجارية واستهلاكية، والاهتمام بأفلام غير أميركية نادرٌ، وهذا خارج المهرجانات المُقامة في لبنان والعالم العربي.

الإصرار على مُشاهدةٍ في الصالة يُثير سؤال الأفلام المعروضة، التي ـ بغالبيتها الساحقة ـ مصنوعة للترفيه والتسلية وتمضية وقتٍ من دون جلبة الضغوط اليومية. التحدّث عن "جمالية" الصوت والصورة في الصالة يُغيِّب القيم الأساسية للأفلام المعروضة، وأنواعها ومضامينها وأشكالها.

الـ"سينيفيلية" غير مرتبطة بمكان المُشاهدة. إنها ثقافة متكاملة تبدأ بالمُشاهدة، ولعلّها غير منتهية في الوعي والمعرفة والقراءة والمعاينة والعيش.

المساهمون