المسلسلات المصرية: التاريخ على هوى المخابرات

المسلسلات المصرية: التاريخ على هوى المخابرات

21 ابريل 2021
خالد الصاوي في "القاهرة - كابول" (فيسبوك)
+ الخط -

اتفق المبدعون في كلّ المجالات الفنية، على أنّ مصداقية أيّ عمل فني، تكمن في مطابقته للأحداث من الناحية الزمنية والواقعية، لكنّها تعتمد بالأساس على فهم الواقع جيداً، وتقديم رواية مختلفة من منظور خيالي مختلف. ذلك أنّ إعادة تدوير الواقع كما هو تماماً، يمكن أن تدخل ضمن البروباغاندا أو التوجيه المعنوي، الذي يلغي تفكير المتلقي ويمنعه من التخيل.

لكن، بالنظر إلى المسلسلات التي تنتجها المخابرات العامة المصرية بواسطة شركتها "سينرجي" من خلال هذا المبدأ، سنجد أنّ تلك الأعمال قد حذفت واقعاً كاملاً واستبدلته بآخر، وهذا ليس نتيجة لخيال مبدع أو رؤية فنية، بل خدمة لأغراض سياسية بحتة، تخرج كلياً عن نطاق الفن والحرية، كما ظهر في كثير من الأعمال هذا العام.

إذ لا يكف النظام المصري الحالي عن محاولاته لتغييب الوعي وتزييف التاريخ، وتوجيه الرأي العام لتبنّي وجهة نظر واحدة تجاه الأحداث والقضايا، في محاولة منه لطمس ذاكرة أجيال، رغبة في تجميل صورته وشيطنة المعارضة، بالتوازي مع تقديم رجال الأجهزة الأمنية في صورة ملائكية لا تخطئ، تقوم على خدمة البلاد والعباد. إحدى تلك الوسائل، هي الدراما بأنواعها، سواء سينمائية أو تلفزيونية، خصوصاً مع سيطرة شركة "سينرجي للإنتاج الفني"، التابعة للمخابرات العامة المصرية، والقائمة على مجمل الإنتاج التليفزيوني في السنوات الأخيرة.

ضمن هذه الأعمال الدرامية التي تعرض في شهر رمضان الحالي، مسلسل "القاهرة - كابول"، تأليف عبد الرحيم كمال، وإخراج حسام علي، بطولة طارق لطفي، وخالد الصاوي، وفتحي عبد الوهاب، ونبيل الحلفاوي، وحنان مطاوع.

وبحسب القائمين على العمل، فهو يرصد المؤامرات التي تتعرض لها المنطقة العربية ومصر، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، من خلال ثلاثة أصدقاء قدامى، لكنّ الأول تحول إلى إرهابي، والثاني إعلامي مسؤول عن نقل الحقائق، لكنّه يتبع مصلحته الخاصة، والأخير ضابط شرطة يواجه تلك الشرور، وهو الهدف الذي لا تخطئه عين عمّن هو المخلص الشريف للوطن من بينهم، الذي وعى منذ وقت مبكر خطر "الجماعات الإسلامية". هو الأمر الذي استدعى العودة للوراء إلى سبعينيات القرن الماضي، فترة حكم الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وما حوت الصحافة وقتها من موقف القيادة الرسمية تجاه "المجاهدين الأفغان" في مواجهة الاحتلال السوفييتي، ومقطعي فيديو يوضحان بشكل واضح وصريح، دعم الرئيس الراحل والكامل لـ"المجاهدين الأفغان"، وذلك في عام 1980 بلقاء تلفزيوني بمناسبة عيد ميلاده مع الإعلامية الراحلة، همت مصطفى، حين قال: "أنا شفت اللاجئين من ناحية والمجاهدين اللي بتهدم قراهم عليهم والأطفال والنساء والمساجد، أنا شوفت ده وعشان كده طلبت من كلّ مصري ومصرية أن يشترك مع شعب أفغانستان، كما حدث أيام المهاجرين والأنصار، إن شاء الله هذا الأسبوع أسبوع التضامن، لسنا أغنياء كالبعض، لكنّنا نشعر بأنّنا بعقيدتنا وبإيماننا وبأخوتنا أغنياء جداً، وسنشرككم في ما نملك سنقتسمه سوياً؛ الكساء والسلاح والمال والطعام وكلّ شيء".

وفي العام نفسه، التقى وفداً من "المجاهدين الأفغان" فأبدى سعادته بتكوين حكومة مؤقتة. وهنا جزء مما جاء في هذا اللقاء: "من ناحية مصر فأحمد الله أنّي أستطيع أن أقول لكم، إنّ من ناحية السلاح، وهي الناحية الاساسية الحيوية خاصة ما هو خاص ضد الدبابات أو ضد الطائرات، فمصر ستتكفل بهذا، كما أُرسلت لكم ستُرسل أيضاً، وإذا شئتم أن يأتي أبناؤكم ليتدربوا هنا أو في أي مكان آخر، إحنا حاضرين". أي إنّ الدعم الكامل والشامل كان من قائد ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، التي ينتمي إليها الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، وباستخدام وسائل الإعلام نفسها لحشد الشعب في اتجاه معين، وهو يحاول إلصاق التهم بالآخرين ويبرئ نفسه.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لكن ظهر مقطع فيديو آخر يعود لعام 2012، لهيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، في أثناء عهد الرئيس باراك أوباما، وهي تقدم شهادتها أمام الكونغرس الأميركي عن الصراع مع الاتحاد السوفييتي، حين قالت إنّ "الذين نقاتلهم اليوم كنا نمولهم منذ عشرين عاماً، فعلنا ذلك لأنّنا كنا عالقين في صراع مع الاتحاد السوفييتي، دعونا نتعاون مع الجيش الباكستاني والمخابرات الباكستانية، دعونا نجد هؤلاء المجاهدين في السعودية والأماكن الأخرى. استخدمنا العلامة التجارية للإسلام الوهابي، من أجل الحرب مع الاتحاد السوفييتي".

إن كانت أحداث هذا المسلسل تدور في زمن بعيد نسبياً، ولم يعاصره كثير من جيل الشباب الحالي، فإنّ الأجهزة الأمنية تحاول بالوسائل والجهود كافة أن تزيف حقيقة المذبحة التي جرت في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، بالتزامن مع اعتصام ميدان النهضة في محافظة الجيزة يوم 14 أغسطس/ آب 2013، تجاه معارضي الانقلاب العسكري الذي جرى في الثالث من يوليو/ تموز من العام نفسه، والذي ما زال جرحه ينزف، في قلوب من نجا من المذبحة، أو أسر الذين قضوا فيها، وفي قلوب الأحرار ممن شاهدوا البثّ الحيّ عبر شاشات التلفزيون، وبين من لم تمت فيهم الإنسانية بعد من معارضي الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي.

في مسلسل "الاختيار 2"، تأليف هاني سرحان وبطولة كريم عبد العزيز وأحمد مكي، من إخراج بيتر ميمي، في الحلقة الخامسة التي أذيعت قبل يومين، تبنى العمل الرواية الرسمية لوزارة الداخلية من أنّ الاعتصام كان مسلحاً وأنّ خطة الفضّ كانت سلمية، لولا أنّ الطرف المقابل بدأ في إطلاق النار. 

مسلسلات تخرج عن نطاق الفن لتخدم بروباغندا النظام في مصر
 

ويذكّر كثيرون بالمؤتمر الصحافي الذي عقده اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية في ذلك الوقت، إذ صرح بأنّه "عند انتقال القوات إلى المواقع فوجئت بقيام أعداد من المعتصمين باتخاذ تحصينات ومواقع وبدأوا في إطلاق الأعيرة النارية والخرطوش تجاه القوات، التي تعاملت بمهنية واحترافية من دون خسائر، وتم ضبط عدد من مثيري الشغب وحائزي الأسلحة النارية التي بلغت 9 بنادق آلية و10 خرطوش و9622 طلقة حية و6 قنابل يدوية و55 زجاجة مولوتوف، وكميات من الأسلحة البيضاء وأدوات الشغب".

وبحسب التصريحات الرسمية، فقد بلغ عدد القتلى من بين أفراد الشرطة 43، منهم 18 ضابطاً، من بينهم اثنان برتبة لواء واثنان برتبة عقيد، و9 من المجندين، وأصيب آنذاك 211 فرداً من بينهم 55 ضابطاً. وطبقاً لتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للحكومة، والمكون من 44 صفحة، وفي الصفحة الـ 22 تحديداً، فإنّ ضحايا المجزرة من المعتصمين بلغوا 632 قتيلاً و1492 مصاباً و800 معتقل. وبتقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، قتلت قوات الأمن 817 متظاهراً - على الأقل - في غضون ساعات قليلة يوم الفضّ، بينما ذكرت منظمة العفو الدولية في تقرير لها وصفته بـ"الأحداث الدامية" أنّه قتل ما لا يقل عن 900 شخص خلال تفريق قوات الأمن المصرية للاعتصامات المناهضة للحكومة، وأوضحت المنظمة في تقرير أصدرته في ذكرى المذبحة يوم 14 أغسطس 2019، أنّ أحكاماً بالسجن لمدد تصل إلى 25 عاماً صدرت بحق أكثر من 650 شخصاً ممن شاركوا في الاعتصام، كذلك صدرت أحكام بالإعدام بحق 75 آخرين بعد محاكمة جماعية قالت عنها المنظمة إنّها افتقرت بشدة إلى النزاهة.

ويذكر أنّه في اليوم نفسه ألقى أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بياناً، رفض فيه اللجوء إلى العنف لحلّ المشاكل السياسية، وأكد حرمة الدماء، ودعا جميع الأطراف إلى ضبط النفس وتغليب صوت الحكمة والعقل ومصلحة الوطن والاستجابة للجهود الوطنية لتحقيق المصالحة الشاملة وإيضاحهم للحقائق، وطالب الجميع بعدم محاولة إقحام الأزهر في الصراع السياسي. وعلى خلفية الحلقة وما جاء فيها، فقد امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتغريدات، تفنّد الرواية الرسمية عن كون الاعتصام مسلحاً، ومنهم من قارن بحسابات النسبة والتناسب بين عدد الأسلحة التي حازتها قوات الأمن وعدد الضحايا الذين سقطوا من الجانبين، فإنّ الفض لم يكن سلمياً.

وشارك العديد من المغردين متابعيهم بمقاطع فيديو، عن تعامل قوات الأمن العنيف مع المعتصمين، والجرافات التي تعاملت مع الخيام، والجثث المتفحمة، والجثث التي امتلأت بها المساجد المجاورة في انتظار ذويهم لتسلّمها، ومقاطع أخرى عن قنص قوات الأمن للصحافيين والمصورين. وتداول آخرون من المعتصمين الذين نجوا من المذبحة، ما واجهوه وما شاهدوه من القصص الدامية، وكذلك أكذوبة الممرات الآمنة التي قررتها الأجهزة الأمنية قبل بدء الفضّ، إذ ظهر سقوط قتلى من المعتصمين في أثناء سيرهم فيها.

وكان المقطع الأبرز الذي جرى تداوله للطفل رمضان، الذي توفيت والدته أمام عينيه وهو يصرخ: "اصحي يا ماما بالله عليكي". ونشرت السيدة سناء عبد الجواد، زوجة القيادي الإخواني المعتقل حالياً محمد البلتاجي، صورة ابنتها أسماء، على صفحتها في "فيسبوك" وكتبت: "سامحيني يا أسماء إذ اضطررت يوماً أن أنشر صورتك تلك، لكن دعي عينيك تخبرانهم بجريمتهم؛ ففي عينيك كلّ الأدلة".

أما المخرج المصري القبطي باسل رمسيس، فقال إنّه "حتى الشرائح المجتمعية الواسعة الرافضة للإخوان... واللي شايفين إن قيادات الإخوان مشاركين في الجريمة وشاركوا في السعي ليها... رابعة بالنسبة ليهم، ليها تقل كابوسي خاص بسبب كمية الدم الكتيرة جداً اللي سالت فيها، وكمية الاعتقالات والتنكيل اللي حصل للي شاركوا في الاعتصام وأهاليهم. لدرجة أنّها مست بشكل أو بآخر مئات الآلاف من البيوت المصرية. فالاستسهال الدرامي والإخراجي طلع أتفه بكتير من أيّ مرويّات تانية عن رابعة".

وأضاف: "أخيراً... سيبوكوا من قصص إن التاريخ بيكتبه المنتصرون. ده تحصيل حاصل، ومش حقيقي في حالتنا. لأنّ الوعي المباشر عند قطاع مهم من الشعب المصري بيكتب برضو تاريخ مختلف عن تأريخ سينرجي المخابرات... وهو إن فيه مجزرة ومطلوب التار. ودي المصيبة اللي لسه مجتمعنا ما دفعش تمنها. وده اللي يخللي قرار تناول مذبحة رابعة في عمل مسلسلاتي من إنتاج المخابرات انحطاط أخلاقي وخطأ سياسي.. أيّاً كانت جودة التناول".

المساهمون