عن رحيل المخرج الجزائري سيد علي مازيف... المرأة والعمّال ومحاربة الشعوذة

08 مايو 2023
لم ينسَ المعاملة السيئة التي كان يتلقّاها في شبابه من مخرجين (فيسبوك)
+ الخط -

حَدَث لسيد علي مازيف ما حَدَث لمخرجين عديدين، ينتمون إلى الجيل الثاني في السينما الجزائرية: الصَدّ والتهميش والإبعاد. وهذا حاصل معهم من مخرجي الجيل الأول، الذين امتلكوا الشرعية الثورية والنفوذ، بعد سيطرتهم على مفاصل صناعة السينما بعد الاستقلال مباشرة، كمسؤولين عن السينما، وأوّلهم أحمد راشدي (85 عاماً)، الذي تقلّد سابقاً مهام عدّة ذات صلة بالسينما، والذي يشغل حالياً منصب مستشار رئيس الجمهورية، المُكلّف بالثقافة والسمعي البصري، ومحمد لخضر حمينة (89 عاماً)، الذي تقلّد هو أيضاً مناصب عدّة سابقاً، ويترّأس حالياً لجنة اختيار الأفلام الجزائرية المرشّحة لـ"أوسكار".
هذا الصَدّ بحجة أنّ الشباب لا يملكون لا الخبرة المناسبة ولا التجربة التي تؤهّلهم للدخول إلى السينما. صرّح مازيف بهذا أكثر من مرة، في مجالسه الضيقة، وفي حوارات صحافية. ولعلّ الرسالة التي وجّهها، مع مخرجين شباب، إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، في ستينيات القرن الماضي، يشتكون فيها من الصَدّ والتهميش، فتحت أمامه الطريق، لاحقاً، لتحقيق بعض أحلامه السينمائية بصعوبة بالغة، ومعه عمار العسكري (1942 ـ 2015)، والغوثي بن ددوش (86 عاماً)، ومحمد بوعماري (1941 ـ 2006)، ورشيد بن علال (77 عاماً)، وفاروق بولوفة (1947 ـ 2018)، ومحمد زينات (1932 ـ 1995)، وحتّى مرزاق علواش (79 عاماً)، وغيرهم.
رحل سيد علي مازيف (16 أكتوبر/تشرين الأول 1943 ـ 3 مايو/أيار 2023) وفي قلبه حسرة من الذين زرعوا الشوك في طريقه، بمنعه من العمل، أو بالمعاملة السيئة التي كان يتلقّاها في شبابه من مخرجين. في حوار أجراه معه حميد طاهري (ربما يكون آخر حوار منشور) في صحيفة "الوطن"، الناطقة باللغة الفرنسية (2 مارس/آذار 2023)، يظهر عمق تلك الأوجاع التي لم ينْسَها، ولم يتكفّل بها الزمن. قال إنّه، حين كُلّف بالعمل مساعداً في "وقائع سنوات الجمر" (1974)، وجّه ملاحظة بعد أنْ جرت إعادة تصوير مشهد عملية الحصاد أكثر من 20 مرة، فردّ عليه لخضر حمينة بسلوكٍ سيئ جداً، وبشكل متعالٍ. الصدمة الأخرى تلقّاها قبل ذلك، عندما كان مساعداً في "مثل الروح" (1965)، عندما أخبر مخرجه عبد الرحمن بوقرموح بأنّ الحوارات ستكون أعمق لو كانت بإحدى اللغتين العربية أو الأمازيغية، فردّ عليه قائلاً إنّه يريد عرض فيلمه في فرنسا.

انبثق اهتام سيد علي مازيف بالسينما بفضل الأندية التي انتسب إليها في مراحل دراسته، قبل الاستقلال (1962) وبعده. وكما قال للصحافي نفسه (طاهري)، أرسله "المركز الثقافي الأميركي" الى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة السينما، لكنّ التظاهرات المنطلقة بعد "حرب الأيام الستة" (1967) حالت دون ذلك. في المقابل، درّسه أساتذة أجانب في "المعهد الوطني للسينما" (1964 ـ 1967)، الذي أرسل، بعد ذلك، عدداً من الطلاّب إلى الخارج لاستكمال دراستهم، لكنّ مازيف رفض، وقرّر البقاء في الجزائر رفقة مجموعة أخرى، منهم كلثوم مزيان، التي أصبحت زوجته لاحقاً، ثم بدأ يعمل في مؤسّسات، يُعدّ تقارير مُصوّرة ويُخرجها، لتكون أول تجربة إخراجية له في السينما الملوّنة عام 1969، بإنجازه فيلماً توجيهياً بعنوان "قطف البرتقال" (1967). قبل ذلك، أثناء دراسته في المعهد، أخرج أفلاماً قصيرة، كـ"حياة مزدوجة" (1964)، و"الجنديان" (1965)، و"التهامي" (1966).
بدأت حياته المهنية مساعداً لمخرجين أجانب ومحليين، كالفرنسي مارك ساتور، ثم كانت انطلاقته الحقيقية في الأفلام الطويلة، التي انتظرها وحلم بها كثيراً، بـ"العرق الأسود" (1972)، العائد به إلى ما قبل اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، مُصوّراً معاناة آلاف العمّال الجزائريين، الذين كانوا يعملون في منجم الحديد في مدينة "ونزة"، تحت الإدارة الاستعمارية الفرنسية، منهم الأمين بولعراس، الذي طُرد من المدرسة الثانوية بطريقة مهينة، فوجد نفسه مُجبراً على العمل في المنجم. في هذا الفضاء القاسي، عاش ظروفاً شاقّة، كعمّال المناجم، والتمزّق الذي يلتهم وجودهم.
اختار مازيف بعض من درس معه في معهد السينما، ليساعدهم في النهوض والبروز، أمثال كلثوم مزيان والغوثي بن ددوش، اللذين عملا معه مُساعدَي مخرج، إضافة إلى رشيد بن علال في المونتاج (أصبح لاحقاً مخرجاً ومولِّفاً معروفاً).
مما لا يُمكن الاختلاف حوله، في تجربة مازيف ومساره ومرجعيته السينمائية، انتصاره الدائم في معظم أفلامه للمرأة أولاً، ثم المواضيع الوطنية، التي كرّس بها صورة الاشتراكية كنظام وخيار استراتيجي، كما في "مسيرة الرعاة" (1975)، الذي روى قصة أسرة مكوّنةٍ من أب و3 أبناء، يعيشون في وئام، لكنّ الظروف القاسية تهلك الغنم، ثم يُتوفّى الأب، ويتحمّل الابن الأكبر المسؤولية، فيرحل إلى المدينة للقاء الأخضر صاحب الغنم، ويخبره بما حدث، ويقابل مسؤولاً لا يهتمّ به. تختار الأسرة مرعى جديداً، يُطبَّق فيه نظام التعاون الزراعي.
بفيلمه هذا، ساهم مازيف في الترويج للنظام الاشتراكي والثورة الزراعية، اللذين اتّخذهما النظام الجزائري خياراً ثابتاً حينها، لكسر الاستغلال الذي يُمارسه كبار الملاّك والموالين على حساب المربّين الصغار.
لكنْ، تبقى المرأة الخيار الأول الذي دافع عنه دائماً، والبداية مع "ليلى والأخريات" (1977)، أهمّ أفلامه، إذ قدّمه مخرجاً ذا موهبة وموقف سينمائي وقضية يدافع عليها. أوجد شخصية ليلى ليُسقط عليها ما كانت تمرّ به المرأة الجزائرية عامة. تعمل في مصنع لتركيب التلفزيون، وتسكن إلى جوار بيت مريم، الطالبة في أحد أحياء العاصمة. تواجه الاثنتان مشاكل ناتجة من نظرة الرجل إلى المرأة في مجتمع متخلّف، فليلى تعاني جرّاء نظرة رئيس العمّال وزوجها والمجتمع، لذا، تسعى إلى تشكيل نقابة للعمّال لحفظ الحقوق. مثّل في الفيلم ممثلون أصبحوا نجوماً لاحقاً، كشافية بوذراع وبيونة وعايدة قشود وأحمد بن عيسى، وغيرهم.

الأرشيف
التحديثات الحية

واصل مازيف دفاعه المستميت عن المرأة ضد تهميشها ومعاملتها كسقط متاع في المجتمع الذكوري، في "حورية" (1986)، الذي أنجزه بعد 9 أعوام، أخرج فيها فيلماً وثائقياً واحداً فقط، بعنوان "أنا موجود" (1982). "حورية" أخرجه من النسيان، وهو اسم بطلته، المولودة مطلع الاستقلال في مدينة "الجسور المُعلّقة" بقسنطينة. استشهد والدها قبل أن يراها ويرى الاستقلال. لهذا سُمّيت حورية، التي ستواجه صعوبة كبيرة في الدراسة الجامعية، بعد معارضة أمها وإخوتها. تقاوم المنع بفضل أختيها الكبيرتين، وتتعقّد حياتها أكثر مع ارتباطها بعلاقات غرامية مع زملائها في الجامعة، ما جعلها تدخل في متاهات إضافية، وجبت فيها المقاومة لتنتصر لأفكار الحرية واستقلال المرأة.
بعد ذلك، بدأ مازيف عطلة فنية طويلة، قبل تحقيقه فيلماً وثائقياً قصيراً، "قضية النساء" (2001)، عنوان كتاب للمناضلة والناشطة النسوية الفرنسية جيزيل حليمي أيضاً. بعدها بـ5 أعوام، أخرج وثائقياً آخر، "العنف ضد المرأة" (2007)، عاد بعده إلى بياته الموسمي، حتّى عام 2015، بمناسبة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، مُقدّماً روائياً طويلاً بعنوان "وسط الدار": سردية أخرى لمشاكل المرأة وهمومها، مع الاستغلال والظلم والقهر والخيانة والذكورية المفرطة. كأنّ مازيف يصرخ، بصوتٍ عال، بأنّ مشكلة المرأة في الجزائر لم تنتهِ، بعد 15 عاماً على استقلال الجزائر، أو بعد نصف قرن و3 أعوام، وبأنّ مشاكلهنّ وآهاتهنّ ومطبّاتهن لم تتغير، ولا تزال منتشرة في المجتمع.
ليست الأفلام المذكورة وحدها من أخرجها سيد علي مازيف، إذ له أفلامٌ وأجناسٌ سينمائية أخرى (روائي ووثائقي، قصير وطويل)، إضافة إلى نشاطه في الإنتاج والتنفيذ وكتابة السيناريو والاستشارات، وتفاصيل مختلفة تنساب من الصناعة السينمائية. حارب في هذه الأعمال، زيادة على ما ذُكر أعلاه، السحر والشعوذة والطرق الشعبوية في معالجة المشاكل التقليدية، وأظهر حبَّه الكبير للعمران والهوية والعادات والتقاليد، التي تصنع تميّز المجتمع الجزائري، إلى حدّ أنّه لا يوجد فيلمٌ سينمائي واحد من دون أنْ يضع فيه بعض تلك التفاصيل، كأنّه ينفث الروح الجزائرية فيها لتعيش أكثر.

المساهمون