"المتدرب العسكري" للكازاخي يرزانوف: عبث ودعابة سوداء في فيلم رعب

01 يناير 2025
عادل خان يرزانوف: مبالغة في قهر الشخصيات (آن ـ كريستين بوجولا/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "المتدرّب العسكري" للمخرج عادل خان يرزانوف يعرض في مهرجان أوراسيا الدولي، ويجذب جمهوراً كبيراً في كازاخستان، خاصة من الشباب المهتمين بالسينما. يتناول الفيلم قضايا اجتماعية وسياسية معقدة من خلال سرد غير تقليدي وشخصيات قاسية.

- يركز الفيلم على قصة الفتى سيريك الذي يواجه التنمر والرفض في أكاديمية عسكرية بسبب مظهره الأنثوي، مما يؤدي إلى تحولات قاسية وكارثة جماعية. يستخدم المخرج عناصر الرعب والتوتر لتجسيد أفكار حول الرجولة والسلطة.

- يتميز أسلوب يرزانوف بروح الدعابة السوداء والعبثية، مشابهاً لأسلوب آكي كوريسماكي، مع توازن بين الأجواء السوفييتية والغموض، وتصوير بصري مميز يجمع بين الألوان الباردة والإضاءة المعتمة.

شَقُّ طريقٍ بصعوبة بين جمهور محتشد، للدخول إلى صالة في "آلماتي" (كازاخستان) تعرض فيلماً للمخرج الكازاخي عادل خان يرزانوف، له معنى خاص.

فلهذا المخرج الذي عُرض له فيلمان في مهرجان "كانّ" وآخران في "مهرجان فينيسيا"، شهرة دولية. لكنْ، من شدّة الازدحام لحضور جديده "المتدرّب العسكري" (2024)، المعروض في المسابقة الدولية للدورة الـ17 (24 ـ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان أوراسيا الدولي"، يُستنتج أنّ له روّاداً في بلده أيضاً، معظمهم شبابٌ درسوا السينما في المعاهد المشهورة لـ"آلماتي"، المدينة التي عمل فيها كبار المخرجين السوفييت في الحرب العالمية الثانية، كسيرغي آيزنشتاين، الذي صوَّر فيها جزءاً كبيراً من ملحمة "إيفان الرهيب" (1943)، كما أُنتِجَ في استديوهاتها 80 % من الأفلام الروائية السوفييتية حينها.

بعد انتهاء العرض، احتاجت شابة جامعية جالسة بجانبي إلى التمهّل قبل إبداء رأيها. فالفيلم ليس بسيطاً، ويتطلّب تمعّناً في معانيه وأسلوبه الإخراجي. ربما يبدو القصد واضحاً لوهلة أولى، لكنّ تعقيدات السرد، التي يميل إليها المخرج، تجعل من الحذر أمراً لا مفرّ منه. فماذا يقصد بهذا الحوار؟ وما خلفيات سلوك أبطاله؟ وماذا تعني التقنيات الخاصة، إضاءة ومؤثّرات صوتية؟ ولمَ اختيار شخصيات توحي بزمن ولّى، لكنّه كما يبدو، لم يُولِّ حقاً؟

لا زمان ولا مكان مُحدّدين في "المتدرّب العسكري". إنها أمكنة عامة تصلح لكلّ البلاد. لوحة تشبه علماً، عليه رموز سوفييتية ونجوم أميركية وخطوط حمراء وزرقاء بريطانية تتصدّر مشاهد الشخصية العسكرية الرئيسية. لا تحوّل كبيراً في الشخصيات التي يختارها، إذْ تغلب عليها القسوة، المتأصلة أو المتبناة بسبب ظروف قاهرة، لتعبّر عن نظام اجتماعي ـ عائلي ـ سياسي يُدينه يرزانوف من دون مواربة، هو الذي يحكي في أفلامه عن المجتمع الحديث، وهبوط الفرد إلى الجحيم، والمواجهات غير المتكافئة بين الحبّ والمبادئ، وقسوة وقهر وتحكّم واستغلال سياسيين وعسكريين وجامعي أموال. كما في فيلمه الأشهر "اللامبالاة الحنونة للعالم" (2018)، عبر حكاية الفتاة الجميلة سلطانة، المُجبرة على بيع مثاليات حياتها الريفية لتواجه قسوة المدينة، حيث المستغلّون والمجرمون يمسكون بالناس الشرفاء، وحيث لا تجد إلّا الموت خلاصاً من اللامبالاة "الحنونة" للعالم.

يبالغ يرزانوف في قهر شخصياته، ليُشعِر أكثر بالاضطراب واليأس. في "المتدرّب العسكري (كاديت)"، يكشف العنف والفساد في الجيش بأسلوب أفلام الرعب، مع تصوير مظلم، وأصوات مزعجة، ومشاهد متوترة، تخدم الفكرة الرئيسية للنصّ، وتُوصل رسالة تُجاري ميول العالم المعاصر (سخرية من مقولة "الآن يحوّلون الرجال إلى نساء")، من دون إقحام أو افتعال. فكرة عن مشكلات متعلّقة بالعقلية العسكرية: كيف يُحوَّل فتىً بريء ورقيق إلى "رجل" يقتل "الأوغاد"؟

 

 

تحاول ألينا، الأم العزباء للفتى سيريك، تسجيله في أكاديمية عسكرية نخبوية، لكنّه يتعرّض للتنمّر من زملائه، ويعتبره المدير غير لائق لها بسبب مظهره الأنثوي. الأمّ، لأسباب لا تريد الاعتراف بها حتّى لنفسها، تُصرّ على بقائه في الأكاديمية الرهيبة، وتحاول الاستفادة من الرتبة العسكرية العالية لوالده لإجبار الإدارة على قبوله، رغم أنّ امرأة انتحر ابنها فيها تُحذّرها من أنّ سيريك سيتّبع المسار نفسه إنْ بَقي فيها.

تتابع الأحداث يبدي التطوّر التدريجي للكائن وتحوّله، بعد زرع ممارسات فيه تجعله جديراً برجولته، وفق تعريفهم للرجولة، وتُحوّله من إنسان إلى وحش. لا يتعلق الأمر بالفتى وحده، بل بالشخصيات كلّها، من المدير إلى الطلاب والأم. فرغم اختلاف الأدوار والمنظور، يُصيب التحوّلُ الجميع، مؤدّياً إلى كارثة واحدة. يلعب الفيلم على لحظات الرعب لتجسيد أفكار مريضة، من سادية وانفصام، ويستخدم القوى الخارقة لبطله الصغير في تعبير عن تجريد من طفولة وإنسانية. يُصبح سيريك، بحركة ونظرة، قادراً على الفتك من بعيد بمن يشاء. سيكشف قدومه خفايا فظيعة.

لدى يرزانوف إحساس بالعبث، يتوفر في "المتدرب العسكري"، مترافقاً مع روح دعابة سوداء. في القصة ذات الأجواء السوفييتية (باللغة الروسية)، الدائرة في أكاديمية عسكرية في كازاخستان، يؤكّد فظائع مروّعة يمكن لعسكريين ارتكابها، في مكان منعزل، تزيد عزلتَه ثلوج كثيفة تصلح بقسوتها عاملاً مُحفّزاً لتحوّلات الشباب. يسير الفيلم أحياناً على نحو كلاسيكي يشبه أفلام العسكر التدريبية الأميركية، لكنّه ينحاز سريعاً إلى الغموض والأجواء المرعبة، مُعتمداً إضاءة معتمة، ومزاوجاً بين ألوان باردة تماماً: بيضاء ناصعة في الخارج مع الثلج، وزرقاء قاتمة في الداخل (الأكاديمية). ترواح اللقطات بين ثبات وتقريب كبير، لتبدي انفعالات أبطاله الدقيقة، وحركاتهم المتوترة.

هذا الإحساس بالضوء واللعب به يُخالفان ما عُهد في بعض أفلامه المضيئة، من لقطات واسعة حارّة للسهوب الكازاخية. يعتني يرزانوف بتركيب المشهد بتفاصيله، لكنّه لا يترك مجالاً للتعاطف مع أيّ شخصية ذات تركيبة مُعقّدة، وأداء متقن في فيلم رعب، لا ينتمي إلى أفلام الرعب العادية، بل يخلق شعوراً تدريجياً بالتوتر، مع إظهار القدرات غير العادية لبطله، وبناء حبكة غامضة تتكشّف تصاعدياً، مُحافظة على عنصر تشويق يستمر إلى اللحظات الأخيرة، ليس من دون توقّعات للمُشاهد بين حين وآخر.

يُشبّه أسلوب يرزانوف بأسلوب الفنلندي آكي كوريسماكي في سخريته السوداء والغريبة والمربكة أحياناً، وفي تصويره شخصيات كسرتها الحياة في قراراتها المفاجئة والمحيرة، والإحباط الذي يتركه لدى مُشاهده عند مواجهته بوضع يائس. يضع ابتسامة على وجه مُشاهده، لكنّها تبدو كأنّها آخر ضحكة قبل السقوط.

المساهمون