قلقٌ نقديّ إزاء كيفية تناول مصائب لبنان في سينماه. هذا يحصل دائماً. أفلامٌ تُنجز ـ بعد وقتٍ قليل، أو أكثر بقليل، من المصيبة ـ تُسيء إلى المُصيبة أساساً، وإلى السينما أولاً. سهولة إنجاز فيلمٍ عن "قضيّة"، تقنياً وتمويلاً (معظم الجهات الإنتاجية الغربية تموِّل وتُنتج أفلاماً كهذه، بصرف النظر عن الشكل السينمائي، أحياناً)، يزيد منسوبَ القلق، خاصة أنّ بعض منجزي أفلامٍ كهذه غير مُدركٍ معنى الصورة السينمائية وكيفية إنجازها، وغير مالِكٍ حدّاً أدنى من متخيّل ووعي معرفي.
الأسوأ كامنٌ في ميول مُنجزي تلك المصائب إلى ادّعاءٍ متنوّع الأشكال: في الثقافة والاجتماع والنظرة السياسية والتفكير. أسوأ من الأسوأ حاضرٌ في لغةٍ، يعتمدها كثيرون في بلدٍ منهارٍ ومعطوبٍ: كلامٌ عام عن توافقٍ بين مكوّنات الشعب اللبناني، وانتصار مؤكّد على قتلة وناهبين وفاسدين، لأنّ اللبنانيين واللبنانيات متحدّون معاً وقادرون على مواجهة الموت، وبيروت تقوم دائماً من موتها. الواقع نقيض هذا تماماً. أيُدرك القائلون به نفاق ما يقولونه، لكنّهم يتباهون أمام كاميرا وثائقية بتسامح وتعاطف وتواصل وتضامن، لن تكون لهذا كلّه أي ترجمة عملية واضحة له؟
مصائب لبنان، منذ الربع الأخير من عام 2019 على الأقلّ، تمتلك ما يُمكن جعله أفلاماً، تطرح تساؤلات، يُفترض بها (الأفلام والتساؤلات) أنْ تحرِّض على نقاشٍ ومُصارحة. الأفلام غير مطالَبَةٍ بحلول، بل إنّها (الأفلام) غير معنية برسالةٍ يُراد إيصالها إلى آخرين، وغير مهتمّة بإجابات، وغير مكترثةٍ بدعاية وترويج. صحيحٌ أنّ هناك أفلاماً تُصنَع لهذا، تحديداً، بعضها غير سينمائيّ. لكنْ، هناك أفلامٌ سينمائية باهرة تروِّج وتُسوِّق وتقول خطاباتٍ أيديولوجية، مبطّنة ومُعلنةً، من دون أنْ تتنازل عن الجانب السينمائيّ البحت: سيرغي أيزنشتاين (الشيوعية السوفييتية) وجون واين (اليمين الأميركي) وليني ريفنْشتال (النازية الألمانية) مثلاً. يستحيل عدم الاهتمام بجماليات أفلامهم، المليئة بخطابات وأيديولوجيات ومواقف وسلوك.
مصائب لبنان كافيةٌ لنتاجٍ، في بعضه جماليات سينمائية، رغم قسوة المُصوَّر وعنفه وانهياراته وثقل تداعياته المختلفة؛ وفي بعضه الآخر انعكاسٌ لرغبة صانعيه في قولٍ أو توثيق، لكنّ المُنتَج يخلو من السينما: التقاطٌ أساسيّ لأقوال وصُور، وعجز عن تحويل المُلتَقَط إلى فيلم. اهتمام بقولٍ أو نصٍّ، وابتعادٌ عن سينمائيّة القول أو النصّ.
اعتبار المُنجز البصريّ، الأعجز من أنْ يكون فيلماً، رسالةٌ، مقتلٌ للسينما. القول إنّ هذا المُنجز أول فيلم لصانعه لن يحول دون التساؤل عن غياب مفردات الصورة ولغتها. أفلامٌ أولى كثيرة، عربية وغربية، تشي بحضورٍ للسينما، يكون باهراً أحياناً. تغليب القضية على السينما إلغاءٌ للسينما، وتحويلٌ للمُنجَز إلى بيانٍ أو خطابٍ لا أكثر، أو إلى ادّعاء وتصنّع لا أقلّ. القضية أولاً نوعٌ سينمائيّ أيضاً، شرط امتلاكه شرطه الإبداعيّ.
كلّ فيلمٍ، أيّا تكن مدّته، يحتاج إلى مال، يُساهم في جعل المرغوب في التعبير عنه أو البوح به فيلماً سينمائياً. الأهمّ كامنٌ في تفكير وتأمّل ومتخيّل، يُفترض بصانع العمل أنْ يمتلكها. يُردِّد البعض أنّ غياب المال، أو قلّته، عائقٌ أمام تحقيق المطلوب. هذا غير صحيح. تحقيق المطلوب ممكنٌ، إنْ تتوفّر لصانع المُنجز مقوّمات كثيرة، منها المال. غياب التفكير والتأمّل والمتخيّل، أو أحد هذه الثلاثية، يحول دون إنجاز فيلمٍ سينمائيّ، وإنْ تكن له ميزانية ضخمة.
مُجدّداً: النيّة الطيّبة والرغبة الصادقة لن تصنعا سينما. إنّهما نطفة صغيرة جداً في حماسة فردٍ للفنّ السابع. مصائب لبنان تتمثّل بانهيار اقتصادي (عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" 2019)، وتفشّي وباء كورونا (أول إصابة بالوباء في البلد مُعلنٌ عنها في 21 فبراير/شباط 2020)، وانفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). اشتغالات سينمائية، متعلّقة بإحدى هذه المصائب (كورونا والانفجار أولاً، من دون التغاضي عن الأزمة والانهيار الاقتصاديين، فيكون تناولهما مُوارباً)، تعكس جماليات بصرية مهمّة، رغم عنف اللحظة وأذيّتها. أفلامٌ، يغلب عليها النوع القصير، تروي وقائع، وتُصوِّر حالاتٍ، وتعكس ملامح، جاعلة السينما مَعبَراً وحيداً لقول وبوح وتعبير. أفلام أخرى تشي بأنّ المُصيبة المختارة فيها تجعل المُنجَز البصري نفسه مُصيبةً إضافية.