قبل أيام قليلة، اختُتم في الدار البيضاء "مهرجان الفيلم التربوي لأطفال المخيمات الصيفية" الذي أثار سؤال ماهية الفيلم التربوي والأخلاقي في مغرب اليوم، وموقعه وجدواه في سينما مغربيّة جديدة، باتت تنزع عنها التقليد، وتُقدِّم نفسها تلقائياً، كامتداد لسينما ذات علاقة بما تشهده الساحة العالمية، سياسياً واجتماعياً.
لا يهمّ المهرجان بحدّ ذاته، بل فكرة "الفيلم التربوي" كبدعة نقدية، روّجت لها صحافة سينمائية منذ ثمانينيات القرن الـ20. حصل هذا في مدن كثيرة، راهنت على الفيلم التربوي باعتباره دعامة "بيداغوجية" قوية للنهوض بالمدرسة العمومية، وتقريب تلامذتها من الفنّ السابع. واقع الفيلم التربوي هائل، يتحكّم بـ"لوبيات" يُقدّم المنخرطون فيها أنفسهم كمخرجين وكُتّاب سيناريو، لأنّهم حصلوا على رخصة تصوير وتحقيق أفلامٍ قصيرة مُرتبكة، عُرضت في قاعاتٍ ومدارس.
كان هذا مهمّاً في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، حين كانت هناك طقوسٌ لمُشاهدة الأفلام، ترتبط أكثر بصالات السينما. وبسبب انعدام التنشئة الفنية في المغرب، اجتهد أساتذة كثيرون وتطوّعوا لعرض أفلامٍ، وتقديم دروس عامة في السينما. أحياناً، نجحت هذه الدروس إلى حدّ تمكّنها من دفع البعض إلى تصوير أفلامٍ عدّة في مدارس مُعيّنة. الوضع اليوم تغيّر. فكرة السينما في المدرسة مجرّد موضة خطابية، وتدريب إنشائي، تتوسّله وزارة التربية الوطنية لتسويغ أخطائها، ورفضها لكلّ فنّ شعبي ثائر، يُقدّم متعة ومعرفة للناشئة، خصوصاً أنّ السينما في المغرب فردية، لا تتوافر على مؤسّسات فنية تدعم العاملين فيها، صناعة وتأليفاً وتخييلاً ونقداً.
ذيوع الفيلم الوثائقي في مغرب الثمانينيات الفائتة جعل مُدرّسين يجدون أنفسهم في صلب الإخراج، ورئاسة مهرجانات سينمائية تهتمّ بالفيلم التربوي المُوجّه إلى الطفل، من دون تفكير في ما تعنيه أصلاً عبارة "سينما الطفل". أجّجت حركة الأندية وقافلاتها السينمائية الفيلم التربوي، فحرص بعض أعضائها على تغذية لا شعور الأطفال بأفلامٍ وكتب وفيديوهات. النيّة حسنة، حينها، لكنّ الواقع اليوم تغيّر، ويحتاج إلى تفكير وتدقيق ومساءلة عن الدور، الذي أصبحت تؤدّيه هذه الأفلام بالنسبة إلى طفلٍ، لم يَعُد يحتاج إلى من يُقدّم له فيلماً تربوياً ودروساً في الالتزام الديني والأخلاقي، فهو يُشاهد في كلّ ثانية أفلاماً عالمية تمنحه سيلاً من الصُّور، ومتعة وتسلية وثقافة عن واقع معاصر، بدل الركون إلى أفلام تمنحه موعظة عمّا ينبغي أنْ يكون عليه في المدرسة.
لا تُنكر أهميّة إقامة مهرجان للفيلم التربوي، فهذا يدخل في صناعة سينمائية يحتاجها المغرب، الآن أكثر من أيّ وقت مضى. لكنّ فكرة الفيلم التربوي غير صحيحة في أساسها. المفهوم بعيد كلّ البُعد عن ماهية السينما. وهذه الأخيرة ليست تربوية ولا توعويّة، ولا تُعالج شيئاً كما تُروّج عنها كتابات نقدية. الفيلم عبارة عن مجموعة صُوَر مركّبة، تختزن عشرات الرموز المُتخيّلة والمجزأة عن واقع ما، تقوم الكاميرا بتحويلها إلى صُوَر حركية مُتقطّعة. الفيلم التربوي بدعة أخلاقية، تعتمد في تفكيرها على تنميط حرية الرغبة والتفكير لدى الطفل، وتسييج مُخيّلته على الإبداع والابتكار، بدعوى تقديم مَشاهد سينمائية تدّعي أنّها تربوية، ترشده إلى الطريق.
هناك أشياء إيجابية عدّة أرستها حركة الأندية السينمائية، أدّت دوراً طلائعياً في تأصيلها في السينما في المغرب. مع ذلك، فالناقد السينمائيّ مُطالب بالتنقيب في تاريخ هذه الحركة، وما راكمته من مصطلحات ومفاهيم وقضايا وتقاليد تجاه السينما. بل إنّ الذائقة الجمالية للناقد يجب أنْ تنزع دائماً إلى غربلة التقاليد السينمائية الموروثة، وإعادة التفكير فيها مُجدّداً، انطلاقاً من تحوّلات معرفية وسينمائية وجماليّة ألمّت بالقطاع، في الأعوام الأخيرة.
الفيلم التربوي أحد هذه المزالق النقدية، التي تحتاج إلى نقد وفحص وتحليل، لا لتبخيس جهود الناس وتضحياتهم في مدارس عمومية على ما يقومون به، بل لإرشادهم ومُناقشتهم وحثّهم على ضرورة الخروج من شرنقة الأخلاقيات، وجعل التلميذ يُبدع ويبتكر ويحلم كما يُريد، من دون إحداث أيّ شرخ في تفكيره. فالحرية شرط السينما، وإلّا تحوّلت إلى "دوكسا" (مجموعة آراء متجانسة إلى حدّ ما، مشوّشة أو ذات صلة، وتحيّزات شعبية أو فردية). الشرط الوحيد، الذي يجعل الفيلم عملاً إبداعياً، لا يرتبط بالأداء أو الموسيقى التصويرية أو المونتاج، بل ما يُحدثه الفيلم من خرق لواقع الاجتماع المغربي. فكيف يجوز لفيلم تربوي نقد نمط تفكير مجتمع معيّن، بينما يُعاني عجزاً فكرياً، ويشتغل بأدوات بصرية تقليدية؟
يطرح التلاميذ أسئلة غريبة، وأحياناً مُستفزّة لأجسادنا وإدراكنا. هم قادرون على تقديم معرفة سينمائية بالواقع الذي يعيشون فيه، أكثر من الأستاذ. الفيلم التربوي في المغرب شكلٌ من أشكال التنميط البصريّ، حيث يخضع الإبداع السينمائيّ لشروط ومعتقدات وحدود وتقاليد. هذا مُنافٍ للسينما، ولطبيعتها وصناعتها ومُتخيّلها، إذْ إنّها لا تُؤمن بالسياجات السياسية والاجتماعية، ولا بمنطلق الحلال والحرام.
بهذا المفهوم، يكون الفيلم التربوي بحدّ ذاته رقابة تربوية، وسُلطة أخلاقية قاهرة تجاه الآخر، لأنّ إنجازه يظلّ خاضعاً لشروط اجتماعية مُتّفق عليها مُسبقاً، في الاجتماع المغربي. والأصل في الفكرة، ذو ارتباط حميمي بلحظة تاريخيّة معيّنة، سقطت وتوارت عن الأنظار، وباتت مجرّد نوستالجيا سينمائية عن مفاهيم وسياقات ومعتقدات وجراح وتقلّبات.