فشل الوفد التونسي في معالجة مسألة استخدام المحاكم العسكرية ضد المدنيين في أعمال تندرج ضمن إطار حرية التعبير، واكتفى بالقول إن المحاكم هذه "مستقلة" وإن من يُحاكم لديه الحق في الاتصال بمحامٍ، وذلك خلال أعمال جلسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في إطار الاستعراض الدوري الشامل لجمهورية تونس التي أقيمت في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
جُملة من الانتقادات تعرّضت لها رئيسة الحكومة نجلاء بودن، خلال الجلسة، فقد أوصى وفد إيطاليا جمهورية تونس بضمان بيئة حرة للمجتمع المدني وحرية التعبير والصحافة، فيما قدّم وفد أيرلندا توصياته باعتماد تدابير لمنع العنف ضد المتظاهرين وترهيب واضطهاد المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين، وتحدث وفد ألمانيا عن تدهور حالة حقوق الإنسان في تونس، وأوصى وفد جنوب أفريقيا بضرورة العودة إلى المؤسسات الديمقراطية التي علقت واحترام حرية التعبير والحقوق المدنية والسياسية. كما أعربت دول عدة عن مخاوفها بشأن حالة الديمقراطية التونسية منذ المراجعة الأخيرة، ولا سيما في ما يتعلق بالحق في التظاهر وحرية الرأي والتعبير واستخدام القوة وسوء المعاملة واستقلال القضاء.
ردّت رئيسة الحكومة التونسية بأن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم التعذيب في بلادها "حالات فردية"، الأمر الذي يتنافى مع الواقع، إذ بات التضييق وقمع الحريات والاعتقالات وملاحقة المدونين نهجاً مستمراً في سياسات الرئيس قيس سعيّد.
ولا تتوانى السلطات عن انتهاك الحقوق الرقمية التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان والحريات الأساسية. غُلّف القمع بالقوانين والمراسيم، إذ صدر المرسوم 54 المتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال في 13 سبتمبر/أيلول الماضي، ولاقى انتقادات من المدافعين عن حقوق الإنسان وتخوّفاً من قمعٍ شديد لحرية الرأي والتعبير.
هذا المرسوم دفع النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إلى إصدار بيان طالبت فيه رئيس الجمهورية بسحبه، واعتبرت أنه يهدف إلى مزيد من التضييق على حرية التعبير والصحافة والتشدّد في التعامل مع قضايا مختلفة، تحديداً مسألة النشر والتعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، تحت ذريعة مكافحة الشائعات وجرائم المعلومات. كذلك، لفت بيان النقابة إلى أنّ العقوبات الواردة في المرسوم "تفتقد إلى مبدأ التناسب والتراتبية، حيث نص الدستور على أنّ أيّ تقييد للحريات يجب أن يكون ضرورة تفرضها الدولة المدنية الديمقراطية، من دون المسّ بجوهر الحريات"، وهو ما تمّ تجاهله تماماً في المرسوم الجديد، ما دفع النقابة لاعتباره "قانوناً غير دستوري يتوجّب على الرئيس التونسي سحبه". ورأت النقابة أنّ القانون يضرب حرية الصحافة وحرية النشر والتعبير في مقتل، و"يؤكد توجّه السلطة في تونس نحو تكريس منظومة تشريعية وسياسية تضرب الحقوق والحريات وتحرم المواطنات والمواطنين من حقهم في التعبير والنشر، ويجعلهم مهددين بالسجن في أيّ لحظة، خاصة أنّ المرسوم الجديد لم يضمن أيّ حقوق ولم يضع في اعتباره ضرورات الدولة الديمقراطية المدنية حسب الدستور".
انتقدت أغلب فصول المرسوم 54، بسبب تضييقها على حرية التعبير والعقوبات المُجحفة التي يواجهها مرتكبو الجرائم التي ترتبط أساساً بالنشر، إذ أعربت مُنظمات عدّة عن قلقها إزاء الفصل 24 الذي ينص على عقوبة السجن لمدة خمسة أعوام وبغرامة مالية تصل إلى أكثر من 15 ألف دولار، "لكلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال، لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذباً للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني". وتُضاعف العقوبة إذا كان المتضرر موظّفا أو مسؤولا في الدولة.
وينص الفصل التاسع من المرسوم على أنه يمكن "لوكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق أو مأموري الضابطة العدلية المأذونين في ذلك كتابياً أن يأمروا بتمكينهم من البيانات المعلوماتية المخزّنة بنظام، أو حامل معلوماتي، أو المتعلّقة بحركة اتصالات، أو بمستعمليها، أو غيرها من البيانات التي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة". أعطى هذا التفصيل مجالاً واسعاً للشرطة العدليّة بمعاينة المعطيات التي أُلزم مزوّدو خدمات الاتصالات (ISPs) بتخزينها لمدة غير محددة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول حماية البيانات وخصوصية المواطنين الرقمية، فيما يخشى حقوقيون من استغلال استخدامها وتوظيفها في السياسات القمعية. كما يشكل هذا الفصل تهديداً جديا لحق الصحافيين في سرية المصادر، المنصوص عليها في صلب الفصل 11 من المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الذي اشترط وجود إذن قضائي للحصول على المعلومات التي بحوزة الصحافيين، شرط أن تكون متعلّقة بجرائم تشكل خطراً جسيماً على السلامة الجسدية للغير، وأن يكون الحصول عليها ضرورياً لتفادي ارتكاب هذه الجرائم، وأن تكون من فئة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى. لكن بمقتضى الفصل 9 من المرسوم الجديد، أصبح بإمكان أعوان الشرطة تعقب المعطيات التي تكون بحوزة الصحافيين من دون أي ضمانات قانونية.
وكان نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بسام الطريفي، قال لـ"العربي الجديد" إنّ "المرسوم تضمن العديد من العبارات الفضفاضة التي يمكن تأويلها في إطار التضييق على الحريات الأساسية والتضييق على حرية التعبير عن الرأي والنشر"، مشيراً إلى أنّ "مدّة العقوبات السجنية مرتفعة جداً، ولا تتناسب مع الجرم، إذا صحّ اعتبارها جرماً". وأشار إلى أنّ "عبارات مثل بث الإشاعات، هي عبارات فضفاضة وغير واضحة ويمكن تأويلها"، كما حذّر من أن يصبح المرسوم "سيفاً مسلّطاً على الصحافيين والناشطين والسياسيين لمنعهم من التعبير عن رأيهم". أضاف الطريفي، في سبتمبر/أيلول الماضي: "الجمعيات طالبت بسحب المشروع وإعادة النظر فيه باعتبار أن هذا المرسوم الرئاسي يدخل فور نشره حيّز التنفيذ"، مشيراً إلى أنّه "يجب تحديد المفاهيم الواردة في المرسوم وتوضيحها وتحديد العقوبات السالبة للحريات، وملاءمة هذا المرسوم مع بقية النصوص التي تعالج نفس المجال على غرار المرسومين 115 و116 لسنة 2011 والمجلة الجزائية".
كما تركّز السلطات الأمنية التونسية على مراقبة التفاعلات الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي، فتلاحق الأصوات المُعارضة أو الانتقادات الموجّهة للحكم، في مختلف القضايا حتّى الاقتصادية أو الاجتماعية منها. في 16 سبتمبر، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يُظهر اعتداء رجال الأمن على الصحافي سفيان بن نجيمة الذي تعرض للضرب المبرح من قِبل القوات الأمنية وكافة الحاضرين في إذاعة تونس الدولية، نتيجة آرائه ومنشوراته. وفي 17 يناير/كانون الثاني من العام الماضي، اعتقلت الأجهزة الأمنية التونسية طالب أحمد غرام في منزله، بسبب منشورات له على منصة فيسبوك، انتقد فيها قمع الشرطة والإفلات من العقاب والحُكم الفاسد. وجهت إليه السلطات تهمة "التحريض على بث الفوضى"، بعدما أوقف لمدة 11 يوماً، قبل تبرئته وإطلاق سراحه.
وفي إطار استهداف الشرطة التونسية للناشطين في مجتمع الميم عين، وظفت وسائل التواصل الاجتماعي في مضايقتهم وكشف هويتهم، عبر نشر معلومات حساسة شملت عناوين منازلهم وأرقام هواتفهم، والتحريض عليهم للسخرية منهم ومضايقتهم.