بين الركام الذي خلفه القصف، وقف شاب ممسكا بالعود الناجي من الدمار، ليناوله إلى صديقه الذي اعتلى بناية لم يبق منها إلا هيكلها. انتشرت الصورة انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها من قطاع غزة، في وقت يؤكد فيه آخرون أن الصورة قديمة، وأنها من إحدى المدن السورية.
الفرق ليس كبيراً، فالمدن المدمرة شقيقات في المحنة، والشعوب تحت النار لا تعرف إلا أخوة الدم. انتشرت الصورة مشفوعة بدلالتها التي لا تُنكر: هذا شعب يحب الحياة والفنون. يحب الغناء والموسيقى. يحب الأعواد والأوتار. ينتشل العود من بين الأنقاض كأنه حبيب أو عزيز.
لا تستورد فلسطين أعوادها، فمن بين أبنائها من أجاد حرفة صناعة الأعواد، حتى راكم سمعة وصيتا في أرجاء العالم. احتضنت مدن فلسطين التاريخية عدداً من مهرة الصناع، الذين تعاملوا مع كل آلة يبنونها وكأنها قطعة من الروح، تنبئ بإتقانها ودقتها وصفاء صوتها عن نفس بانيها. فالفلسطيني الضارب في عمق الثقافة العربية، مستمسكا بهويته، يصارع بأوتاره من أجل البقاء.
وعلى كل حال، فإن العلاقة بين العود الفلسطيني والعود السوري عميقة وثيقة. في الجذور المدركة لازدهار صناعة الأعواد الفلسطينية، يروي كتاب التاريخ أن الصانع ذيب جبران سافر في ثلاثينيات القرن الماضي من الناصرة إلى الشام، ليتتلمذ على عائلة النحات الدمشقية، المشتهرة بصناعة أعظم الأعواد العربية.
بعد رحلته الحرفية، عاد ذيب إلى الناصرة وأمد عازفيها ببضعة أعواد صنعها، بقي منها عدد قليل لدى قدامى العازفين في الناصرة. انتقلت خبرات ذيب جبران إلى أفراد عائلته، لا سيما ابن أخيه الصانع حاتم جبران، الذي انخرط منذ مطلع الثمانينيات في بناء الأعواد المتقنة، المتسمة بالجودة ونظافة "التشطيب". تتراوح أعواد حاتم ما بين العادي البسيط والمهنيّ الاحترافيّ عالي الأداء، وتشتهر أعواده وتصدّر إلى الخارج من خلال أولاده الثلاثة، سمير ووسام وعدنان، الذين اشتهروا بالعزف على آلة العود تحت عنوان "الثلاثي جبران".
وفي مدينة حيفا الساحلية، عرف المهتمون بآلة العود الصانع أمين حداد الذي كان يصنع آلتي العود والقانون في ورشته الصغيرة أول شارع الجبل، واعتبر أحد أركان الصناعة بين عرب الداخل حتى رحيله المفاجئ. يقول الباحث في تاريخ العود جميل إلياس: "لم يزر موسيقيّ حيفا يوماً إلا وعرّج على ورشة أمين حداد. ولا زالت أعواده شواهد على تلك الملكة التي أوتيها، وقلّما تجد أعواداً من صناعته معروضةً للبيع لندرتها ولجودتها".
لكن رئاسة هذا الفن ومشيخته في عموم فلسطين انتهت إلى أبي سمعان، كميل مويس (1937- 2018)، ابن الناصرة، وأحد أهم صناع الآلة في العالم العربي، الذي صنع عوده الأول عام 1959 وهو لا يزال شاباً في مقتبل العمر، وقد تعلّم مسار العملية التصنيعية كاملاً من تجربته المهنية الشخصية.
يقول جميل إلياس: "في البداية، شرع مويس يقلّد أعواداً جلبت له لإجراء بعض الإصلاحات عليها - من صناعة أبناء عائلة النحات الدمشقية العريقة، ومحمد فاضل حسين من بغداد، وسمباط ديربيدروسيان الأرمني الذي استقر في الشام، وشكري الملقي، وجورجي الحايك الحلبي، ومحمد الترك اللبناني وغيرهم من الصنّاع الذين سبقوه من عرب ومن أتراك ومن فرس، نسي أسماء معظمهم مع السنين - إلا أنه سرعان ما طفق يبني أعواده وفق أسلوبه الخاص".
عمل أبو سمعان طوال حياته من دون مساعد، ولم يشترك معه أحد في صناعة أي عود من أعواده، لم يكن يسمح لأحد بأن يمس عوداً يصنعه قبل تشطيبه نهائياً وتلميعه وضبط أوتاره. والأهم، أنه لم يشترِ جزءاً جاهزاً لعوده نهائياً، وظلّ يصنع زخارفه بنفسه، وينحت مفاتيح أعواده بيده، حتى ظهرت المفاتيح الجاهزة عالية الجودة رخيصة الثمن.
لم يكن يصنع الأعواد تبعاً لرغبات الزبائن، كان يبني العود كما يريد هو، فلا يخالف قناعاته بأي ثمن. ومثلاً، لم يقبل يوماً أن يصنع الأعواد ذات المربط المتحرك، أو الفتحات البيضاوية. كانت ورشته تبدو كما لو أنها بدائية قديمة، ليس فيها إلا الأدوات التي كان يستخدمها صناع العود في القرن الماضي، وحين كان يسمع بالآلات الحديثة التي دخلت عالم الصناعة، كان يقول: "إنها اليد لا الأدوات، ولا يغرنّك كم هي كثيرة أو متطوّرة، اليد هي التي تنفخ الروح في الآلة الموسيقية". اليوم، وبعد سنوات على رحيله، صار كل عود من أعواده كنزاً نادراً، يصعب الحصول عليه ولو بعدة آلاف من الدولارات.
في عام 2012، بدأ كميل مويس رحلته مع المرض، واضطر إلى اعتزال حرفته وهوايته، لكن ابنه سمعان قرر أن يسير على درب أبيه، ففتح الورشة المغلقة، ورتبها، وبدأ في بناء أول صندوق صوتي، أو "القصعة"، كما تعرف في لغة السوق. فرح الأب المريض بإنجاز ابنه، وبدأ في تلقينه أسرار هذه الصناعة الدقيقة. تطورت أعواد سمعان، وأدهش تقدمه السريع كثيراً من المهتمين بآلة العود في فلسطين وخارجها.
في الضفة الغربية، اشتهر عدد من صناع الأعواد، من بينهم علي حسنين، ابن مدينة نابلس، الذي قرر ترك مهنة التمريض، ليمنح كل وقته لبناء الأعواد، وصيانة كل الآلات الوترية. زار حسنين سورية ومصر والعراق للقاء صناع العود، وحرص على تعلم العزف، حتى لا تقتصر علاقته بالآلة على التصنيع فقط.
وفي قرية بيت ساحور جنوب القدس، يعرف المهتمون بالموسيقى ورشة الصانع عارف السيد، ذلك الشاب الذي ترك العمل بالإرشاد السياحي، إرضاءً لشغفه ببناء الآلات والوترية وإصلاحها والعزف عليها. التحق عارف بمعهد أنتونيو سترادي فاري في إيطاليا لتعلم تصنيع آلات السحب الخشبية مثل الكمان والفيولا والتشيلو والكونترباس، ثم أكمل دراسته في ألمانيا بجامعة تسفيكاو.
في عام 2013، عاد السيد إلى فلسطين، وأسس مشغلاً لتصنيع الآلات الموسيقية بشراكة مع معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، لكنه انفصل عن المعهد بعد عامين، وافتتح مشغله الخاص. يصنع عارف العود والقانون والبُزُق والكمان والفيولا والتشيلو، ولعله أول مقدسي يمارس هذه الحرفة.
لكن الأمر في غزة ليس سهلاً، فالمواجهات والحصار تحول كل شيء إلى تحد كبير، وصناعة عود داخل القطاع أشبه بقصة نضال ومثابرة. عيد حماد، شاب من خانيونس، كان يعمل في مهنة البناء، تلك المهنة التي تضررت حتى توقفت تماما بسبب منع إسرائيل دخول الإسمنت وحديد التسليح إلى القطاع. جلس حماد بلا عمل، فأخذ يمارس هوايته في صناعة الأعواد في غرفة صغيرة مطلة على الشارع في منزله.
مكث ثلاثة أشهر يكابد التجربة. فشل في صناعة 15 عوداً، ثم بدأت الأخشاب تستقيم بين يديه، من دون تعليم أو تدريب إلا مطالعة المنشور على المواقع الإلكترونية، واستشارة الأصدقاء من أصحاب الخبرة بالعزف أو الصناعة. يعاني حماد من نقص الأخشاب الصالحة للاستخدام في صناعة الأعواد، أو من ارتفاع ثمنها، كما يعاني من رفض إسرائيل تصدير العود العود الفلسطيني إلى الخارج.
لم يكن غريبا أن يعتمد بعض صناع العود في فلسطين على أخشاب شجر الزيتون، المتشبع بأكبر حمولات الدلالات الرمزية لهذه الأرض وهذا الشعب. وفي وسط المعركة، خرج العود الفلسطيني (أو السوري) سليماً من بين أنقاض الأبنية التي هدمت تحت القصف.
ظل العود باعتباره جزءاً من الهوية العربية لشعب دفع أثماناً باهظة لتمسكه بهذه الهوية. كان وجود العود بين الحطام دليلاً على أن هذه البيوت تعرف الفن والموسيقى والغناء، قبل أن يصب عليها أعداء الإنسانية سيول النار والدمار.