كان العصر الجليدي الصغير، الذي أرجعه الباحثون إلى الفترة التاريخية، قبل قرابة 600 عام، أحد أبرد الفترات خلال الـ 10000 عام الماضية. كانت هذه الموجة الباردة مسؤولة عن فشل المحاصيل والمجاعات والأوبئة في جميع أنحاء أوروبا، ما أدى إلى إفقار وموت الملايين من الناس.
حتى وقت قريب، كنت الآليات التي أدت إلى هذه الحالة المناخية القاسية غير معروفة على وجه الدقة. لكن الدراسة الجديدة التي نشرت في دورية Science Advances يوم الأربعاء (15 ديسمبر/كانون الأول الجاري)، تقدم صورة واضحة للأحداث التي أدت إلى العصر الجليدي الصغير. في الدراسة، توصل باحثون في جامعة ماساتشوستس - أمهرست إلى إجابة إلى حد ما لحل لغز العصر الجليدي الصغير؛ إذ يبدو أن التبريد قد نتج عن نوبة دافئة بشكل غير عادي.
من خلال تحليل سجلات الحرارة على مدار الـ 3000 عام الماضية، لتحديد درجات حرارة سطح البحر شمالي المحيط الأطلسي، لاحظ الباحثون تغيراً مفاجئاً من درجات حرارة شديدة الدفء في أواخر القرن الثالث عشر، ما أدى إلى ظروف مناخية باردة غير مسبوقة بعد 20 عاماً فقط من ذلك التاريخ، أي في أوائل القرن الرابع عشر.
ويعتقد الباحثون أن هذا التغير الملحوظ، يشير على ما يبدو إلى حدوث انتقال قوي بشكل غير طبيعي للمياه الدافئة شمالاً في أواخر القرن الثالث عشر، والذي بلغ ذروته قرابة عام 1380، وأدى إلى ارتفاع غير عادي في درجة حرارة المياه جنوب جزيرة غرينلاند وبحر الشمال.
يعد انتقال تيارات المياه الدافئة من المناطق المدارية إلى القطب الشمالي، أمراً معتاداً من خلال عملية تسمى دوران الانقلاب الزولي الأطلسي (AMOC)، الذي يحفز هذا الانتقال للمياه الدافئة شمالاً بكمية أكبر من المعتاد، وتسبب في فقدان الجليد في القطب الشمالي بسرعة.
وعلى غير المعتاد، شهدت الفترة منذ أواخر القرن الثالث عشر إلى أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، تغيرات كبيرة؛ إذ رصد العلماء تدفق كميات هائلة من الجليد إلى شمال المحيط الأطلسي، ما أدى إلى تبريد مياهه وتخفيف ملوحتها، فضلاً عن حدوث تراجع لدور الانقلاب الأطلسي، ومن ثم انهيار عملية التدفئة المعتادة سابقاً، وحدوث التبريد غير المتوقع.
ووفقاً للمؤلف الرئيسي في الدراسة، فرانسوا لابوينت، باحث ما بعد الدكتوراه في قسم علوم الأرض في جامعة ماساتشوستس - أمهرست، كان أحد أسباب التغيرات في دوران الغلاف الجوي التي تؤثر على دوران الانقلاب الزولي الأطلسي، هو النشاط الشمسي المرتفع غير المعتاد المسجل في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، ما أدى إلى ارتفاع الضغط الجوي فوق جزيرة غرينلاند. في الوقت نفسه، أسفر عدد أقل من الانفجارات البركانية إلى توفير جو أنظف كان أكثر استجابة للتغيرات في ناتج الطاقة الشمسية.
وأوضح لابوينت، في تصريح إلى "العربي الجديد"، أن نتائج الدراسة ذات أهمية كبيرة خاصة في ظل الشواهد الحالية على تغيرات المناخ. وتطرح الدراسة تساؤلات حول ما إذا كان تغير المناخ الحالي، يمكن أن يسبب مثل هذا التبريد المفاجئ. ورغم أن تناقص الجليد في القطب الشمالي بسبب الاحتباس الحراري، يجعل مثل هذا السيناريو غير مرجح إلى حد ما، إلا أن العمليات المناخية الأخرى الجارية حالياً قد يكون لها نتائج غير متوقعة تماماً.
وأضاف المؤلف، أن فترات الضغط الجوي المرتفع المستمرة فوق غرينلاند في فصل الصيف، كانت أكثر تواتراً خلال العقد الماضي، وهي مرتبطة بذوبان الجليد الذي حطم الرقم القياسي. وأشار إلى أن النماذج المناخية، لا تلتقط هذه الأحداث بشكل موثوق. ولذا، فإنه مع دخول المزيد من المياه العذبة إلى شمال المحيط الأطلسي، قد يحدث خللاً في نظام عمل دوران الانقلاب الزولي الأطلسي، وينتج عن ذلك أحداث مناخية غير متوقعة، مثل العصر الجليدي الصغير في أوروبا.