ثمة شيء من المفارقة، بأن تكون لحظة النهاية في مسلسل The Sopranos (ذا سوبرانوز)، هي اللحظة التي يذكرها معظم محبي العمل أكثر من غيرها. رغم أنها شاشة سوداء، اعتقد معظم المشاهدين، لحظة عرضها لأول مرة، أنها نتيجة عطلٍ تقني حدث في أسوأ لحظة ممكنة، ثم عرفوا أنها ستبقى معهم لسنين لاحقة. بعد هذه النهاية، صعُبَ تصور بداية أخرى، وبقي المسلسل حياً بسبب الفجوات الدرامية التي أحدثها صانعوه عمداً، وتركوا للجمهور مهمة سدها. إلا أن الاجتهادات لم تطاول الثغرات وحسب، بل حاولت التكهن بما سيفعله ديفيد تشايس حيال العمل في المستقبل، لتنتهي التكهنات لحظة الإعلان عن فيلم The Many Saints of Newark (العديد من القديسين في نيوآرك)، الذي لا تلي أحداثه لحظة الإعتام الشهيرة، بل تسبقها عودةً إلى طفولة توني سوبرانو.
حقيقةً، لم يكن هذا الخيار ليجعل المهمة أسهل أو أقل تعقيداً، ربما لأن المهمة محكومة بالفشل بطبيعة الحال. وكما سنكتشف؛ فإن عوامل تتعلق ببناء القصة واختيار الشكل الفني وغيرها ستؤكد هذا الحكم.
عم يتحدث الفيلم؟
ثمة هوة هائلة بين إجابتين عندما يُطرح هذا السؤال. فقبل عرض الفيلم (أخرجه آلان تايلر)، بدا أنه سيتطرق إلى نشأة توني سوبرانو، ودخوله عالم الجريمة المنظمة، بينما يركز العمل على دور "عمه"، ديكي مولتيسانتي، والد كريستوفر، في كل ذلك. أما في الحقيقة، فإن الفيلم يمر على كل ذلك، من دون أن يقف عند نقطةٍ بعينها، أو يجد ما سيرتكز عليه.
يبدأ الفيلم بلقطةٍ في مقبرة نسمع أصوات ساكنيها من خلف قبورهم. ويصبح عندها كريستوفر هو الراوي، مبتدئاً حكايته بتذكيرنا بأن توني قام بخنقه. ننتقل بعدها إلى الميناء، حين نرى توني وديكي لأول مرة، أثناء استقبال والد ديكي، "هوليوود ديكي" وزوجته التي تصغره سناً، ثم نتعرّف على باقي الشخصيات، كهارولد، الأميركي من أصل أفريقي الذي يعمل لدى ديكي، وبعض الشخصيات من المسلسل، مثل والدي توني، جوني وليفيا، وسيلفيو وباولي وجونيور، وعلاقة هؤلاء ببعضهم بعضاً، وبما يجري حولهم، كاحتجاجات نيوآرك التي قامت اعتراضاً على عنف الشرطة ضد سكان المدينة السود، والتي ستمهد لتحول هارولد إلى غريمٍ لديكي، وستعطي الأخير ذريعة ملائمة لإخفاء تورطه في قتل أبيه، وكيف ستساهم هذه الأحداث في تشكيل توني سوبرانو، الذي نراه في زمنين مختلفين، أولهما كطفلٍ، وثانيهما كمراهق يؤدي دوره مايكل غاندولفيني، ابن الممثل الراحل جيمس غاندولفيني الذي أدى دور توني في المسلسل.
كل شيء بشكل عام، ولا شيء بالتحديد
يبدو جلياً أن الفيلم غني بالتفاصيل، كالشخصيات التي لا بد من التوقف عندها، والتفاصيل التي تُذكَر في المسلسل، ويمكن عرضها بدل رويها والحقبة التاريخية التي اختارها الفيلم. والأهم، الإجابة عن الأسئلة التي ستربطه بالمسلسل. ورغم مدة الفيلم التي تبلغ قرابة ساعتين، إلا أن الإحاطة بكل هذه التفاصيل أمر شبه مستحيل حقاً، وهنا تكمن مشكلة الفيلم. فتارةً، يبدو أنه يطارد ديكي، الشخصية التي تحاط بهالة كلما ذُكِرَت في المسلسل، وتارةً أخرى نراه يعود إلى توني محاولاً مدّنا بكل ما يمكن أن يشكل مفاتيحَ لفهمه، ثم يعود ويحاول الإحاطة بنيوآرك كمدينة تعيش حالةً من الغليان.
ينتج كل هذا شخصياتٍ ضعيفة، يمكن قراءتها عبر محاكاة شكلية، حين يتعلق الأمر بشخصيات تحضر لاحقاً في المسلسل، كما في حالة سيلفيو دانتي، وعبر مجموعة من العناوين العريضة لصفاتها، من دون تعمق بتفاصيلها الصغيرة (على عكس ما اعتدنا عليه في المسلسل).
ففي "ذا سوبرانوز"، يعتمد بناء الطبيعة الثنائية لـ "رجل الأسرة/رجل العصابة" على التفاصيل اليومية الدقيقة، بقدر الاعتماد على الأحداث الكبرى أو المفصلية. وهنا يمكن لحلقاتٍ مثل "الجامعة"، من الموسم الأول، أن تحضر إلى مخيلة متابع المسلسل، لطريقة تلاقي عالمي الأسرة والجريمة فيها، والتفاصيل الصغيرة فيها، كأحاديث السيارة بين توني وابنته ميدو، وما تتركه للمشاهد ليفهمه منها.
في الفيلم، على الجهة الأخرى، لا وقت للعمل على هذه التفاصيل. فرغم أن العمل السينمائي يتعمّد رسم خطوط توازٍ وتوريثٍ مع المسلسل، سنتحدث عنها الآن، إلا أن كل واحدٍ منها يبهت بالمقارنة، لكل الأسباب التي ذكرت سابقاً من النوع الدرامي، وحتى تعدد نقاط التركيز في القصة.
ولنبدأ من ديكي مولتيسانتي، شخصية الفيلم الرئيسية، التي يفترض أنها تلعب دور الأب البديل في حياة توني. تبدو صفات ديكي شبيهةً بتلك التي يعرفها متابعو "ذا سوبرانوز" عن توني؛ إذ لكليهما علاقة معقدة بالأسرة، ترتبط عند ديكي بشكل رئيسي بعلاقته بأبيه وارتباطه بزوجته الشابة بعد قتله، أما عند توني فهي تلك التي امتد لأكثر من موسمين مع أمه، ليفيا. إضافة لذلك، تشترك الشخصيتان بالطابع الذكوري الذي يتوقع أن يميز شخصيتين مثلهما، واستعداد اللجوء إلى العنف، والأهم الصراع لموازنة هذه الصفات مع تلك التي تظهر داخل المنزل أو مع العائلة، التي يحاول البطلان إبعادها وعزلها عن العالم العنيف.
ثمة خطوط أخرى لا يمكن إغفال تشابهها، كمصيري أدريانا في المسلسل وجيوسيبا في الفيلم. فبعد محاولة الاثنتين البحث عن استقلال اقتصادي ورضوخ ديكي وكريستوفر لهذه المطالب، تتجاوز الاثنتان "خطوطاً حمراء" تؤدي إلى مقتلهما، تكون في حالة أدريانا تحولها إلى مخبرة تحت ضغط الشرطة، وفي حالة جيوسيبا علاقتها بهارولد، ما يعده ديكي خيانةً.
لكن ما الذي تحاول هذه الخطوط المتوازية قوله؟ ببساطة، يحاول الفيلم تحديد لعنةٍ تجري في دماء أفراد العائلة، على أنها تلك الصلة التي تضمن الاستمرارية، وكأن ما تكرره الأجيال المتعاقبة ينتقل عبر الوراثة. فبالنسبة لتوني، يعمل مزيج من جو التنشئة المحيط وفقدان الأب على مضيه بالطريق الذي سلكه ديكي- وحاول إبعاد توني عنه. يترك موت ديكي ابنه كريستوفر مفتقداً لذات الشخصية، التي يجدها في توني، الذي يلعب هذا الدور محاولاً "إرشاد" كريستوفر وتهيئته ليلعب دوراً أكثر أهمية في عمل الأسرة، إلى أن يقوم توني بقتله نهاية الأمر. وعلى امتداد هذه السلسلة العنيفة والمميتة، يصبح العامل النفسي -الذي ينجح المسلسل في الاستفادة منه بأفضل طريقة وأكثرها ثقلاً- والبناء الاجتماعي الشائع لمفاهيم "الأسرة" و"الرجولة" و"الولاء"، وغيرها مما يصنع هذه الشخصيات، ويودي بها أيضاً.
البحث عن التاريخ
يبدو التاريخ عنصراً مهماً في هذه الحكاية، إذ يستند الخط الدرامي لتوني والدكتورة ميلفي إلى محاولة العودة إلى الماضي لفهم توني بشكلٍ رئيسي، كذلك الأمر في ما يتعلق ببعض الشخصيات الأخرى، التي تخرج من السجن أو تعود إلى الواجهة بعد غيابٍ معين، وفي ما يتعلق أيضاً بالماضي المجيد، وما تتخيله معظم الشخصيات عن أصولها ومركبات هويتها، كشخصيات أميركية من أصل إيطالي.
وبالنسبة للفيلم، سيتوقع المشاهد إغناء لهذا التاريخ، من شأنه كشف حقائق إضافية، أو إغناء ما صرنا نعرفه. لكن الوصول إلى حقائق راسخة، لم يكن يوماً سمة حاضرة في العمل، الذي تعمّد دائماً إحداث الفجوات كما ذكرنا. فعندما يعود المشاهد إلى الطريقة التي يُوصف بها ديكي في المسلسل، يبدو أن لهذه الشخصية طابعاً أسطورياً لا يشبه ما نراه في الفيلم. وليس ذلك نتيجة خطأ بالضرورة، إذ بعد كل شيء، لا تمتاز شخصيات "ذا سوبرانوز" بكونها رواة أمينين للتاريخ كما نعرف، وثمة شيء من المنطق بإسقاط هذا الطابع عن ديكي، بعدما لم يعد شخصية "متخيلة"، بل حضر على الشاشة.
ذات الأمر يتعلق بمقتله؛ إذ سيتوقع المشاهد إجابةً حاسمة عمّا إذا كان توني قد صدق حين سلم الشرطي المتهم بقتل ديكي لكريستوفر لينتقم منه، لكون الحقيقة لم تتضح في المسلسل. وفي الفيلم، نعرف أن جونيور هو المسؤول عن قتل ديكي، لكن بما أن وجه القاتل لا يُكشَف؛ فإن احتمالية أن يكون الشرطي مسؤولاً عن ذلك تبقى واردة، ولو أنها صارت أضعف، بسبب تناقض القصص حول سبب مقتله.
لا يمكن أن يقال ذات الشيء حيال تفاصيل أخرى، أخفق الفيلم حقيقةً في الاستفادة منها. فباستثناء مشهدٍ مهم واحد يظهر توني وليفيا، ومحاولة الأخيرة التقرب من ابنها، لا يبدو أن ثمة شيء جديد يوضح تاريخ هذه العلاقة، وكيف تصل إلى درجة السوء التي نلحظها في المسلسل. بل إن بعض التفاصيل تبدو أحياناً متعارضة مع ما يجري في المسلسل، كالفوارق العمرية بين توني وسيلفيو، رغم ما نعرفه في "ذا سوبرانوز" عن صعودهما المراتب معاً، وهو ما لا يحدث في الفيلم إطلاقاً.
هل كان كل ذلك ليجري في فيلمٍ واحد؟ تبدو الإجابة أقرب إلى النفي. ولهذا السبب، فإن العديد من المشاهدين كانوا ميالين لأن يكون The Many Saints of Newark مسلسلاً هو الآخر، بما يتيحه هذا الشكل من اهتمامٍ بالتفاصيل وسرعة أكثر ملاءمة لروي قصة مترامية الأطراف ومتعددة الشخصيات كهذه، عوضاً عن النتيجة النهائية التي شكّلت لمعظم محبي العمل خيبةً بعد طول انتظار والكثير من الرهانات على غاندولفيني الابن، والقيمة العاطفية لظهوره بالدور الذي لعبه الأب الراحل قبله وساهم بظهور ما بات يعرف لاحقاً بالعصر الذهبي للتلفاز.