منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كلّما نظرنا في شاشة الموبايل أو التلفاز، فسنجد خبراً عن غزة. الجميع يبُث عن القطاع، سواء كان مناصراً أو معارضاً، حامياً أو مهاجماً. وكالات أنباء ومواقع صحافية وحسابات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تعرض وتنقل وتشارك فيديوهات من داخل قطاع غزة وخارجه على مدار اليوم.
الاحتلال يبث قصفه المستمر لغزة وأهلها. بينما الغزيّون يبثون معاناتهم وما يتعرضون إليه للعالم. هذا الأخير الذي يشاهد الجريمة التي ترتكب بحق هذا القطاع، ثم يقوم كل من موقعه بإعادة بث هذه الجريمة تأييداً مرة، وتنديداً مرة أخرى. وما يكاد يكون مشتركاً بين جميع البثوث، هو أن الدماء في كل مكان وفي كل زوايا التصوير. لقد مرت ساعات وأيام وأشهر على قطاع غزة وهو ينهار، وجروحه تتسع، والدماء لا تزال تسيل فيه، وما زالت الكاميرات تغطي الجريمة.
تبث الكاميرات قدر ما تستطيعه من مشاهد الدماء والموت. هنا، حصلت مجزرة على البث المباشر رصدتها كاميرا كانت تعرض مُصابَ طفلة فقدت والدتها. وهناك، قُنِص مراسل كان ينقل الخبر على التلفاز. وفي المستشفى، يعرضون للعالم الخدّج وهم يموتون ببطء. وعلى طول الطريق الواصلة بين المناطق الآمنة والمناطق المشتعلة، هناك أشلاء. وبين الركام، مشهد لإحدى الأمهات تنقل أطفالها المصابين إلى المستشفى على عربة تقطر دماً على طول الطريق. وعلى الأنقاض، لاحظ المصور طفلاً حزيناً يجلس منتظراً نهوض أسرته من تحت الركام. وأمام حريق لمبنى قصفته الطائرات، غطّت الكاميرا للعالم صرخات أحد الآباء باكياً على فقده أولاده الثمانية.
تبث الكاميرات قدر ما تستطيعه من مشاهد دمار ألحقه القصف بأحياء كاملة. هنا، اختفى شارع. وهناك، سويت أبراج سكنية بالأرض. وفي مكان آخر، لم تسلم كنيسة أو مسجد من التحطيم، ولم يُستثن مستشفى ولا مدرسة من الصواريخ، ولم تفرق القذائف بين مكان آمن فوق الأرض أو نفق تحتها. مشاهد كلها عن القتل والتدمير والتهجير، توثيق مباشر وعلى مدار الساعة لتفاصيل الشقاء والألم الذي يمر به أهل غزة، تفاصيل جريمة مستمرة لم تنتهِ بعد.
لا يكتفي الاحتلال بارتكاب جرائمه، ولا حتى يحاول التستر على فظاعتها، بل يتباهى بها ولا يتوانى عن اعتبارها انتصارات، إذ إن هناك دائماً كاميرات ترافق جنود الاحتلال في كل عملياتهم العسكرية على غزة منذ بدء العدوان الأخير، فهي تلتقط لهم الصور وتنتج لهم المشاهد وتبثها للملايين. هكذا، نرى الجندي منهم يحشو مدفعه والابتسامة تعلو وجهه فرحاً بفعلته هذه، مُهدياً قذيفة المدفعية لأرواح من ماتوا من أبناء جلدته. ونشاهد جندياً آخر يقصف هدفاً مدنياً على أنغام الموسيقى، بينما يتراقص ثالث على أصوات قصف عشوائي عنيف، ورابع يتباهى خلال الاقتحامات بتخريب منازل وممتلكات سكان غزة، وتحطيم ما تبقى من أثاث وجدران.
لم تخرج مشاهد ومقاطع فيديو الأسرى عراةً التي بثها الاحتلال عن هذا التباهي بالجريمة، طالما لا يسائله أحد ولا يطالبه أحد بتبرير هذا السلوك الإجرامي. إنه سلوك يصدر عن مختلين عقلياً، وتحكمه العنصرية والتمييز والاستعلاء. سلوك ميّز الاحتلال الإسرائيلي عن بقية الاحتلالات في العالم. سلوك إذلال الآخر وقتله واعتقاله وتعذيبه ونفيه وسرقته وتشريده وانتهاك جسده وهدم ممتلكاته، ثم الادعاء عليه أمام العالم أجمع بأنه "إرهابي" و"داعشي" و"مغتصب".
حدثت في التاريخ أبشع الجرائم. بعضها ارتُكب في وقت قصير وبعضها طالت مدته، سواء في الحروب أو في غير أوقات الحروب. الأمثلة كثيرة في كتب التاريخ والأفلام الوثائقية عن أسوأ ما ارتكبه الجنس البشري. لكن، هل حصل أن بثت جريمة طوال فترة ارتكابها كما يحصل في قطاع غزة؟ المحتل يبث مستعرضاً جريمته، والفلسطيني يبث عارضاً خساراته وانكساراته، حتى أصبحت هذه المدينة فرجةً للعالم كله، وبدلاً من أن تكسب متعاطفين باتت تكسب متفرجين.