"العالقون" لألكسندر باين: توقّعات لا تمنع استمتاعاً مؤكّداً

09 فبراير 2024
بول جياماتي ودومينيك سيسا في "العالقون": خبرة عميقة وأداء لافت (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لم يكن المشاهد لينجو من توقّع أحداث هذه القصة، التي تنبئ بدايتها بنهايتها، وتدعو إلى تخيّل معظم مجرياتها. لكن هذا لن يمنع استمتاعاً مؤكّداً، فألكسندر باين، مخرج "العالقون"، أو "الُمنْزَرِبون" (2023، بحسب العنوان الإنكليزي، و"عطلة الشتاء" بحسب العنوان الفرنسي)، المُرشَّح لجائزتي "بافتا" البريطانية (18 فبراير/شباط 2024) و"أوسكار" الهوليوودية (10 مارس/آذار 2024) أفضل فيلم، عرف كيف يقود، في حكاية نمطية، شخصياته غير التقليدية، ليجعل من نمطيّتها عنصراً مُحفّزاً لمتابعتها.

العالقون هم طلّاب مدرسة داخلية مرموقة، في سبعينيات القرن الـ20، في نيو إنغلند، في الولايات المتحدة الأميركية. بول هَنام (بول جياماتي، المرشّح لجائزتي "بافتا" و"أوسكار" أفضل ممثل، عن دوره هذا) أستاذ التاريخ القديم في هذه الثانوية الخاصة، المتمسّكة بالتقاليد. متحذلق وفظّ، لا يحظى بودّ طلّابه وزملائه، وتقديرهم. وبما أنه ليست لديه عائلة، ولا مكان يذهب إليه لتمضية عطلة عيد الميلاد، سيكون، مع اقتراب المناسبة، المرشّح الوحيد للمكوث في المدرسة لرعاية، أو بالأحرى لمراقبة قلّة من الطلّاب، المجبرين على البقاء. ليس بمقدور هؤلاء العودة إلى منازلهم، إما لرغبة الأهل في التخلّص من عبئهم في العطلة، أو لصعوبات عمليّة مفروضة عليهم.

مع تقدّم السرد، لا يبقى مع الأستاذ سوى شخص واحد: أنغس تالي (دومينيك سيسا، المُرشّح لجائزة "بافتا" أفضل ممثل في دور ثان)، الطالب في الصف الأول ثانوي. إنّه ذكي بقدر ما هو متمرّد. هناك أيضاً ماري لامب (دفاين جوي راندولف، المرشّحة لجائزتي "بافتا" و"أوسكار" أفضل ممثلة في دور ثان)، طاهية المؤسّسة ذات الأصول الأفريقية، التي فقدت ابنها في فيتنام قبل وقت.

الأحداث متوقّعةٌ، ومنذ البداية. نفورٌ مزمن بين الأستاذ والطلّاب، ترافقه مصاعب تأقلم مع الوضع الجديد لكلّ الأطراف، يحلّ بعده تقارب تفرضه المعاشرة، يكون له أثر إيجابي في تقبّل كلّ منهم عيوب الآخر، على نحوٍ ما، وبذور ودّ تنمو بعد أنْ يتيح الظرف اكتشاف ما لا يظهر، عادة، للعيان، من مزايا إنسانية ومشاعر مكنونة في كلّ شخصية. فكرةٌ لطالما تحوّلت إلى أفلام سينمائية معروفة، منذ "ميرلوس" (1935) للفرنسي مارسيل بانيول، وفيه تلاميذ تعساء في مدرسة داخلية، لا أحد من أهاليهم يحتفل بعيد الميلاد. فيلمٌ أوحى للأميركي ألكسندر باين (المُرشّح لجائزة "بافتا" أفضل إخراج عن جديده هذا) القصّة، بحكاية من تلك الحكايات التي تُكتب لأعياد الميلاد. لكنّ باين، الذي يكتب أفلامه عادة، اعتمد هذه المرة نصاً كتبه ديفيد هامنغسُن (المرشّح لجائزتي "بافتا" و"أوسكار" أفضل سيناريو أصلي)، مستوحى من ذكريات شخصية للكاتب، أحيا فيه أجواء الثمانينيات الماضية (جعلها السبعينيات في الفيلم)، والتقط شذرات من شخصيات عرفها، كالأستاذ وبعض التلاميذ، في مدرسة تشبه تلك التي ظهرت في "العالقون".

 

 

من خلال ميلودراما اجتماعية عاطفية، لا تخلو من روح دعابة، وحافلة بكليشيه مع ذلك، يُقدّم الفيلم سفراً عبر الزمن، عن تصارع متوقّع بين الأضداد. أستاذ مادة التاريخ، المتجهّم ذو العين الزجاجية، الذي لا يهتم بالموضة، ويرتدي ملابس لا شكل لها ولا هيئة، والمكروه بسبب ما عُرف عن معاملته القاسية وردوده المشوبة دائماً بعدوانية طاغية، لكن المثقّف والمتحدّث القدير، الذي يعرف أصول المهنة. أمامه طالب (سيسا) موهوب وحسّاس، يعاني افتقاد العائلة، ويشعر بالأسى لإجباره على تمضية عطلة العيد في هذه المدرسة الباردة، مع أفراد لا يشعر نحوهم بودّ، ومع هذا الإحساس بالتخلّي، لا سيما بعد محاولات فاشلة للتواصل مع عائلته. فأمّه وزوجها يكتفيان بتعليمه الراقي، من دون إبداء اهتمام حقيقي بمشاعره ورغباته، هو الإنسان العاطفي، الذي يبدي مظهره وسلوكه خلاف ذلك. بين هذين الاثنين تنمو صداقة، إذْ وجد كلٌّ منهما في الآخر ما ينقصه.

لكنّ "العالقون" أكثر من ذلك. إنّه هذه الحوارات الرائعة والذكية والعميقة والمكثّفة، والمليئة بمراجع مُعبّرة عن خلفية فكرية غنية، التي ـ مع تطور الحبكة ـ تحرّر الشخصيات من شعورهم بالوحدة، وتبدي محاولاتها كسر العزلة. إنّه أيضاً هذا العصر الذي أعيد بناء أمكنته وناسه البرجوازيين خاصة، ما يضع المُشاهد فوراً، منذ المشهد الأول، في أجواء تلك الفترة، مع الشعور بزمن مضى لا يشبه عصراً حالياً. ديكور واقعي في أماكن حقيقية صُوّر فيها الفيلم، فلا مشهدَ واحداً في الاستديو. منذ المشهد الأول، تبدو المؤسّسة التعليمية، على أنغام أغاني الكورال، تحترم التقاليد، وبقي بناؤها على حاله منذ عقود، ويسود لون أثاثه الخشبي الغامق، ليغرق الفيلم مشاهده تماماً في ذلك الزمن، ويقنعه بأحداثه وأفكاره.

خلق السيناريو ثلاثياً متلائماً. إلى الأستاذ والطالب، أضاف وجودُ الطاهية، ذات القلب الكبير والمثقل بآلام فَقْدِ الابن في حرب فيتنام، لمسةً عاطفية أمومية في عالم ذكوري بحت. بدت شخصية الأستاذ منسجمة مع ديكور واقعي، ولم تكن بتعابيرها وعباراتها كأنّها إسقاط حالي على عصر مضى. ترك باين شخصياته تعبّر، عبر حوارات مشحونة بطرافة عفوية، عن وحدتها؛ وعبر أداء ماهر، يتطوّر مع الحبكة، عن تغيّر نظرة كلّ شخصية إلى الآخر.

الشاب دومينيك سيسا لافت للاهتمام في أول دور له، لا سيما أمام الخبرة الكبيرة لبول جياماتي، إذ استطاع فرض نفسه، فكان عدوانياً وساخراً تارة، ومتأثّراً ومُثيراً للمشاعر تارة أخرى، خاصة في لقائه أبيه المريض، الملقى في مأوى لمرضى ألزهايمر. ترك كلّ عنصر من عناصر الفيلم، البصرية والسردية، في قلوب مشاهديه، شعوراً عميقاً بارتياح وفرح مشوب بحزن طفيف، من قصة نُسجت بعواطف مؤثّرة للذين يعانون أسى دفيناً وشعوراً بالوحدة بين زملائهم وأهلهم.

المساهمون