في تقريرها السنوي الذي نُشر اليوم الثلاثاء، تقول منظمة "مراسلون بلا حدود" إن حرية الصحافة عانت "تدهورًا كبيرًا" منذ انتشار الوباء في جميع أنحاء العالم، وهي معلومة ليست بجديدة على القطاع الإعلامي الذي عانى، فوق أزماته السابقة، أزماتٍ جديدة خلال العام الماضي. لكنّ المنظمة تقدّم أرقاماً وإحصاءات واضحة، تشير إلى مدى احتضار الصحافة تحت وطأة وباء كورونا والقمع والاستبداد. فقد رسم المؤشر العالمي الجديد لحرية الصحافة الذي تصدره المنظمة، والذي يقيم أوضاع الصحافة في 180 دولة، صورة قاتمة وخلص إلى أن 73 بالمئة من دول العالم تعاني مشكلات خطيرة مع الحريات الإعلامية. تشير المنظمة إلى أنّ الدول استخدمت جائحة الفيروس"ذريعة لمنع وصول الصحافيين إلى المعلومات والمصادر والتقارير في هذا المجال"، موضحةً أنّ هذا النمط على وجه التحديد كان سائدا في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. كما أشارت إلى انخفاض ثقة الجمهور في الصحافة نفسها، قائلةً إنّ 59 بالمئة من الأفراد الذين شملهم الاستطلاع في 28 دولة زعموا أن الصحافيين "يحاولون عمداً تضليل الجمهور من خلال الإعلان عن معلومات يعرفون أنها خاطئة".
إذ يُظهر التصنيف العالمي لحرية الصحافة أن ممارسة العمل الصحافي تواجه عراقيل شديدة في 73 دولة وتئن تحت وطأة القيود في 59 دولة أخرى، أي ما مجموعه 73 بالمئة من البلدان التي قُيمت. تتوافق هذه الأرقام مع عدد الدول القابعة في المنطقة الحمراء أو السوداء على خريطة حرية الصحافة التي تنشرها المنظمة في إبريل/نيسان من كلّ عام، قبل أيامٍ من "اليوم العالمي لحريّة الصحافة" (3 مايو/أيار)، حيث يُعتبر الوضع صعباً أو خطيراً للغاية، وأيضاً تلك الموجودة في المنطقة البرتقالية، حيث يبقى وضع العمل الصحافي "إشكالياً".
73 بالمئة من دول العالم تعاني مشكلات خطيرة مع الحريات الإعلامية
سجّلت "مراسلون بلا حددود" تدهوراً صارخاً في حريّة العمل الصحافي، كاشفةً عن معوقات تعترض سبيل التغطية الإخباريّة. ففي سياق الأزمة الصحية، بات من المستعصي على الصحافيين الوصول إلى مكان الأحداث ومصادر المعلومات على حد سواء. وتشير دراسة أجرتها المنظمة إلى صعوبة متزايدة أمام الصحافيين للتحقيق في المواضيع الحساسة والكشف عنها، خاصة في آسيا والشرق الأوسط، مع تسجيل بعض الحالات في أوروبا كذلك.
تُظهر نسخة 2021 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة أن العمل الصحفي يُعرقَل كلياً أو جزئياً في 73٪ من البلدان التي تم تقييم وضعها في سياق البحث التحليلي الذي أنجزته مراسلون بلا حدود، علماً أن الصحافة هي اللقاح الأمثل ضد فيروس المعلومات المضللة.https://t.co/mzsmzHJvwE
— مراسلون بلا حدود (@RSF_ar) April 20, 2021
ويسلط "مقياس إيديلمان 2021" الضوء على مؤشر مقلق آخر، يتمثل في عدم ثقة المواطنين بوسائل الإعلام، حيث يعتقد 59 بالمئة من المشاركين في الاستبيان الذي شمل 28 بلداً، أن الصحافيين يحاولون عمداً تضليل الناس من خلال نشر معلومات يعرفون أنها خاطئة. ومع ذلك، فإن المهنية والتعددية الصحافية تجعلان من الممكن مواجهة المعلومات المضللة و"الأوبئة المعلوماتية"، أي التدليس ونشر الإشاعات. وفي هذا الصدد، يؤكد الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، كريستوف ديلوار، أن "الصحافة هي أفضل لقاح ضد التضليل الإعلامي. لسوء الحظ، غالباً ما يُعرقَل العمل الصحافي لعوامل سياسية واقتصادية وتكنولوجية، بل ولدواعٍ ثقافية في بعض الأحيان. فأمام انتشار المعلومات المضللة عبر حدود البلدان وعلى المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، تظل الصحافة هي الضامن الرئيسي للنقاش العام الذي يقوم على الحقائق الثابتة".
كريستوف ديلوار: الصحافة هي أفضل لقاح ضد التضليل الإعلامي
فأمام وضع صحي واقتصادي وسياسي خارج عن السيطرة، وجدت معظم دول المنطقة في الاستبداد السبيل الأوحد لإحكام قبضتها على الشؤون الداخلية، كما تؤكد المنظمة. وبدلاً من السماح لوسائل الإعلام بالمساهمة في نشر المعلومات الموثوقة والاضطلاع بدورها كسلطة رابعة، اختارت هذه الحكومات السير في الاتجاه المعاكس تماماً، مفضلة تعبئة كل طاقاتها لتقويض حرية الصحافة أكثر فأكثر، رغم أن المشهد الإعلامي المحلي كان أصلاً في وضع لا يُحسد عليه، وهو ما من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة قد تظل آثارها دائمة على الصحافة.
الوضع المقلق في العالم العربي والمنطقة، يظهر بوضوح في تقرير المنظمة التي تشير إلى أنّه "في خضم الغضب الشعبي الذي تفاقم بسبب جائحة كوفيد-19 في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، كشفت الأزمة الصحية النقاب عن الحالة المقلقة لصحافة تحتضر ببطء تحت هول السياسات القمعية. ذلك أن المنطقة لا تزال تقبع في الجزء المظلم على خريطة التصنيف العالمي، إذ توجد 12 دولة من الشرق الأوسط في المنطقتين الحمراء والسوداء، حيث يُعتبر وضع الصحافة على التوالي صعباً وخطيراً للغاية، وهو ما يفسّر الجمود الصارخ لهذه الدول في جدول الترتيب".
فبين فرض تعتيم تام على البيانات والأرقام المتعلقة بالحالة الوبائية وإجبار وسائل الإعلام على نقل الرواية الرسمية، شكلت الجائحة فرصة لمواصلة، بل وتكثيف، الممارسات القائمة لتكميم الصحافة في أكثر دول الشرق الأوسط استبداداً، بحسب المنظمة. ففي السعودية (170) ومصر (166) وسورية (173)، حيث تبسط السلطات بالفعل سيطرة مطلقة تقريباً على وسائل الإعلام من خلال قوانين وهيئات تنظيمية شديدة التقييد لحرية الصحافة، وجدت حكومات هذه الدول في أزمة كورونا فرصة لإحكام قبضتها على الحقل الإعلامي. في مصر، حيث يسمح القانون بحجب وسائل الإعلام وسجن الصحافيين بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، حظرت الحكومة نشر أي بيانات أو إحصائيات تتعارض مع تلك الصادرة عن وزارة الصحة، حيث أقدمت على حجب أكثر من ثلاثين موقعاً إخبارياً وصفحة إلكترونية في ذروة الوباء، إذ لا تبدي السلطات أي تساهل مع من يشكك في صحة الحصيلة الرسمية أو يلوح بإمكانية إخفاء الأرقام الحقيقية.
انخفاض ثقة الجمهور بوسائل الإعلام أحد المؤشرات المقلقة هذا العام
كما خلفت الرقابة على تدفق المعلومات آثاراً وخيمة في سورية، التي يعيش مواطنوها منذ فترة طويلة على وقع تعتيم إعلامي كبير في ما يتعلق بانتشار الفيروس. وكما هو الحال في مصر، قررت حكومة الأسد أن تكون "سانا" هي المصدر الوحيد للمعلومات المعتمدة. وفي خضم هذه السيطرة المطلقة على تدفق المعلومات في المنطقة، لاحظت هيئة الصحافيين السعوديين، رغم قربها من الحكومة، انخفاضاً في معدلات الإقبال على وسائل الإعلام المحلية، حيث بات المواطنون يبحثون عن المعلومات مباشرة من المواقع الرسمية للمؤسسات الحكومية.
وإذا كان وضع الصحافيين في لبنان (107) قد شكل نموذجاً يُحتذى به في المنطقة على مدى عدة سنوات، فإن الواقع قد تغير بشكل كبير اليوم، حيث أضحت ممارسة النشاط الصحافي بحرية أمراً ينطوي على خطورة شديدة، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بكشف فضائح الفساد. وهو ما تأكد بجلاء في فبراير/شباط، حيث اغتيل الإعلامي والمحلل السياسي لقمان سليم. كما عادت محنة الصحافيين الميدانيين إلى الواجهة مع استئناف مظاهرات الحراك الشعبي، التي كانت قد توقفت خلال فترة حظر التجول بسبب الوباء، حيث سُجلت العديد من الاعتداءات على المراسلين والمصورين، سواء على أيدي متظاهرين أو من قبل عناصر الشرطة. وتفسر كل هذه العوامل سبب تراجع لبنان 5 مراتب في تصنيف 2021، وهو ما يمثل أحد أكبر التراجعات هذا العام. وبالموازاة مع ذلك، أدى تدهور ثقة المواطنين في النخب الحاكمة ووسائل الإعلام التقليدية (المرتبطة غالباً بتيارات سياسية معينة) إلى زيادة الطلب على صحافة حرة ومستقلة من خلال مصادر بديلة. ويمثل هذا التعطش للحصول على معلومات مستقلة إشارة أمل للصحافة في لبنان، لا سيما وأن الوباء جاء ليؤجج وضع الصحافيين، المزري أصلاً بفعل الأزمة السياسية والاقتصادية غير المسبوقة التي يعيشها هذا البلد. فقد اضطرت العديد من المؤسسات الإعلامية إلى تقليص عدد موظفيها، أو حتى الإغلاق في بعض الأحيان، لتنضم بذلك إلى قائمة المنابر الإعلامية التي توقفت عن الصدور أو البث، مثل تلفزيون المستقبل أو جريدة ديلي ستار. وفي خضم ذلك، وجد الصحافيون أنفسهم في حالة مزرية للغاية، حيث لا يزال الكثير منهم ينتظرون أجورهم التي لم تُدفع منذ أشهر.
في بلدان أخرى من المنطقة، قُوّض الحق في الوصول إلى المعلومات، بينما تسعى السلطات لتهدئة العواقب الاجتماعية للوباء، علماً أن زيادة وتيرة الاعتقالات وحظر النشر جاءت لتعزز ترسانة التدابير القمعية المعمول بها أصلاً. فعلى سبيل المثال، شهد الأردن (129) حبس مسؤولَين من قناة رؤيا لفترة وجيزة في إبريل/نيسان على خلفية إذاعة تقرير ناقد لإجراءات الحجر المنزلي، حيث اشتكى سكان حي شعبي في العاصمة عمان من حظر التجول واستحالة كسب لقمة العيش. وبينما جاء هذا الوباء ليعزز مشاعر الاستياء العام ويدفع المعلمين للتظاهر من أجل المطالبة بزيادة الرواتب، لم تدخر السلطات أي جهد في حظر نشر كل ما له صلة بهذا الموضوع سواء على وسائل الإعلام أو في الحسابات الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي.
الصحافة في المنطقة تحتضر ببطء تحت هول السياسات القمعية
وفي العراق (163، -1)، اتُهمت وسائل الإعلام بالتحريض على التمرد وتشجيع المتظاهرين على عدم المسؤولية، وذلك على خلفية التغطية المكثفة للمظاهرات المناهضة للحكومة في إقليم كردستان العراق احتجاجاً على تجميد رواتب موظفي الإدارات العامة وعلى مختلف تدابير تقييد حركة المواطنين في سياق جائحة كوفيد-19. فبينما حُظر بث قناة NRT TV بقرار من الحكومة، لم يسلم الصحافيون المستقلون من آلة القمع، سواء كانوا يغطون الأحداث ميدانياً أو يتناقلون الأخبار عبر منصات التواصل الاجتماعي. وفي هذا الصدد، اعتُقل ثلاثة صحافيين في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وحُكم عليهم للتو بالسجن لمدة ست سنوات بتهمة تقويض الأمن القومي والتجسس لجهات أجنبية.
#الشرق_الأوسط: لا تزال المنطقة تقبع في الجزء المظلم على خريطة التصنيف العالمي، إذ توجد 12 دولة من الشرق الأوسط في المنطقتين الحمراء والسوداء، حيث يُعتبر وضع الصحافة على التوالي صعباً وخطيراً للغاية، وهو ما يفسِّر الجمود الصارخ لهذه الدول في جدول الترتيب.https://t.co/xU4ro02Qd8
— مراسلون بلا حدود (@RSF_ar) April 20, 2021
وبسبب القمع الذي تمارسه السلطات على الصحافيين ووسائل الإعلام، لا تزال إيران من أسوأ بلدان العالم ترتيباً منذ إصدار تصنيف مراسلون بلا حدود في عام 2002. وقد ازداد الوضع تدهوراً مع أزمة كوفيد-19، التي تحاول سلطات طهران التقليل من شأنها. وفي مواجهة الوباء، كثفت السلطات من رقابتها على جميع وسائل الإعلام التقليدية والصحافة الإلكترونية على حد سواء، حيث تضاعفت وتيرة الاستدعاءات والاعتقالات والمحاكمات في حق الصحافيين، المحترفين منهم وغير المحترفين. كما أن إيران هي الدولة التي أعدم فيها أكبر عدد من الصحافيين في الخمسين سنة الماضية، وكان آخرهم مدير قناة تلغرام آمد نيوز، روح الله زم، الذي نُفذ في حقه حكم الإعدام في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لدوره في اندلاع مظاهرات شتاء 2017-2018 ضد الفساد والوضع الاقتصادي للبلاد.
بحسب المنظمة، لم يسبق أن شهدت خريطة حرية الصحافة "منطقة بيضاء" ضيقة بهذا الشكل منذ عام 2013، أي منذ بدء العمل بمنهجية التقييم. فمن أصل البلدان الـ180 التي يشملها التصنيف، أصبحت 12 دولة فقط قادرة على توفير بيئة مواتية للعمل الصحافي، وهو ما يمثل 7 في المائة فقط من إجمالي دول العالم، (بدلاً من 8 في المائة عام 2020). ذلك أنّ نسخة 2021 من التصنيف شهدت خروج ألمانيا (13) من المنطقة البيضاء، بعد اعتداء متظاهرين مقربين من الحركات المتطرفة وأتباع نظرية المؤامرة على عشرات الصحافيين خلال تظاهرات احتجاجية ضد التدابير الصحية المفروضة في سياق كورونا. وتحتل النرويج صدارة التصنيف العالمي للعام الخامس على التوالي، رغم أنّ وسائل الإعلام واجهت بعض الصعوبات في الوصول إلى المعلومات العامة المتعلقة بالوباء. وبينما احتفظت فنلندا بموقعها في المركز الثاني، استعادت السويد المرتبة الثالثة، التي خسرتها العام الماضي لحساب الدنمارك (4).
وما زال وضع حرية الصحافة في الولايات المتحدة (44) جيداً إلى حدّ ما، رغم أنّ العام الأخير من ولاية دونالد ترامب الرئاسية، شهد عدداً قياسياً من الاعتداءات (نحو 400) والاعتقالات في صفوف الصحافيين (130)، بحسب المنظمة الأميركية لتعقب حرية الصحافة. من جهتها، تراجعت البرازيل أربعة مراكز، لتتقهقر إلى المنطقة الحمراء، حيث الوضع صعب بالنسبة لممارسة العمل الصحافي. ويُفسَّر هذا التراجع بما يطاول الصحافيين من إهانات وشتائم، إلى جانب حملات التشهير المنظمة التي أصبحت السمة المميزة للرئيس جايير بولسونارو وعائلته وأقاربه. كما تضم المنطقة الحمراء دولاً مثل الهند (142) والمكسيك (143) وروسيا (150)، التي كرست أجهزتها القمعية للحدّ من التغطية الإعلامية للتظاهرات المتعلقة بالمعارض، أليكسي نافالني.
وبذلك، تظل أوروبا وأميركا (الشمالية والجنوبية) أكثر القارات ملاءمة لحرية الصحافة، وإن كانت منطقة الأميركتين قد سجلت هذا العام أكبر تراجع بالمقارنة مع بقية مناطق العالم. أما القارة الأوروبية، فقد شهدت تراجعاً بفعل تضاعف وتيرة أعمال العنف ضد الصحافيين ووسائل الإعلام داخل منطقة الاتحاد الأوروبي والبلقان، فقد سُجل تزايد ملحوظ في الهجمات ضد الصحافيين وفي الاعتقالات التعسفية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا (34) وإيطاليا (41) وبولندا (64) واليونان (70) وصربيا (93) وبلغاريا (112). ووصل هذا التدهور إلى 17 في المائة على الصعيد العالمي.