في كتابه الشهير، "الموسيقى والغناء من الموصلي وزرياب إلى أم كلثوم وعبد الوهاب"، وقع المؤرخ والناقد الموسيقي المصري الراحل، كمال النجمي، في خطأ لا شك فيه؛ عندما جزم بنسبة موشح "لما بدا يتثنى" إلى الشيخ محمد عبد الرحيم، الشهير بـ"المسلوب". وبسبب المكانة الكبيرة التي كان يحظى بها النجمي في أوساط المشتغلين بالنقد الموسيقي في مصر، وأيضاً بسبب الشهرة الواسعة لموشح "لما بدا يتثنى"، انتشر هذا الخطأ انتشاراً واسعاً.
والغالب أن النجمي قد ارتبك، عند قراءته كتاب "الموسيقي الشرقي" لكامل الخلعي، لأن المؤلف ذكر "لما بدا يتثنى" ضمن قائمة موشحات مقام النهاوند وفروعه، بعد أن ذكر موشح "رشيق القد" للمسلوب، فظن النجمي أنه له. والحقيقة أن الشيخ المسلوب كان راوية للموشحات، وعنه تلقاها عدد من أعلام الفن. وعاصر الشيخَ شهابُ الدين محمد إسماعيل، صاحب كتاب "سفينة الملك ونفيسة الفلك"، لكنه لم يكن من أرباب تلحين الموشح، فلم يضع من هذا القالب إلا موشحين، ذكرهما كامل الخلعي، هما: "رشيق القد"، من مقام النوا أثر، و"جل منشي حسنك"، من مقام جهاركاه.
ويكاد إجماع المؤرخين ينعقد على أن المسلوب هو مؤسس قالب الدور في الغناء المصري، فلم تُعرف قبله أدوار. ويرى الموسيقي والباحث السوري، الراحل محمود عجان، أن المسلوب "يعتبر زعيم المدرسة القديمة للدور، وإليه يعود الفضل الأول في ترقيته، فقد كان رئيس منشدي الأذكار الصوفية والموشحات في تلك الحقبة من الزمن، كما أنه يعتبر من أئمة ملحني الدور في عصره الذهبي، ولحن ما يقرب من المائة دور، ووصل فيه إلى مرحلة الإبداع والتجديد". ويقرر كمال النجمي أن المسلوب "هو الذي ارتاد طريق الدور لزملائه الملحنين قبل مائة عام، وتلقفه منه عبده الحامولي؛ فغناه ونسج على منواله، ثم تقدم محمد عثمان؛ فزاد فيه كثيراً حتى استكمله واستبحر في صناعته".
التأمل الدقيق للترجمة التي وضعها كامل الخلعي للشيخ تثبت له التفوق في تلحين الأدوار، ولا تثبت له في الموشحات إلا الرواية والأداء المتقن. نص الترجمة يقول: "هو المنشد الشهير، والملحن المصري الكبير، وشيخ مشايخ منشدي الأذكار الصوفية، وهبه الله مزية الإتقان في إلقاء الموشحات والألحان، كما له الباع الطويل والذوق السليم في صياغة الأدوار العربية، على الطريقة الشجية المصرية... حفظه الله وأبقاه".
يمثل الشيخ محمد عبد الرحيم حتى الآن أقدم نقطة يمكن أن يصل إليها البحث الغنائي والتلحيني
وكل الألحان قبل المسلوب مجهولة الملحن؛ لذا، يمثل الرجل حتى الآن أقدم نقطة يمكن أن يصل إليها البحث الغنائي والتلحيني. وحتى عند أخذ الروايات التي تؤخر تاريخ ميلاده عدة عقود، فلن تتأثر تلك "الأقدمية" للشيخ الذي صار بمكانته وعلمه وروايته "رئيسا للطائفة"، أو "شيخ أرباب المغاني"، يمنح الإذن بالغناء لمن يمتلك القدرة والحفظ، ويمنع تلك الرخصة عمن لم يتأهل.
تلقى المسلوب تعليمه الأولي في الأزهر، واشتغل منشدا في الموالد، ثم وجد في نفسه قدرة وميلاً إلى التلحين، فاتجه بقوة إلى تحصيل علوم المقامات والإيقاعات، وحفظ الموشحات حتى صار راوية كبيراً لها. ومن المؤكد أن المسلوب لم يوف حقه في حركة التأريخ الموسيقي، بسبب حالة الانقطاع والتجهيل التي مورست ضد موسيقى عصر النهضة، وأيضاً بسبب توقف المطربين عن أداء الأدوار، بعد أن توقفت عنها أم كلثوم وعبد الوهاب منتصف الثلاثينيات. لكن كل رصد جاد لمسيرة الغناء وتطوره لا يمكنه أن يغفل دور المسلوب باعتباره الرائد الأكبر، والأب المعلم لأعلام هذا الفن.
صحيح أن محمد عثمان أدخل على الدور من التطوير والجماليات ما جعل كثيراً من المؤرخين يعتبرونه مؤسس هذا القالب، لكن التطوير والتجديد والإضافة لا يمكن أن تُبنى على عدم، ولا بد لها أن تكون واقعة على محل، بل على هيكل قوي واضح، وكان المسلوب هو واضع هذا الهيكل ومُنشئه. وقد بدأ محمد عثمان نفسه حياته الفنية بغناء أدوار المسلوب، كما جاء في كتاب إبراهيم شفيق ومحمود كامل عن حياة محمد عثمان.
كان الشيخ المسلوب عالماً بالمقامات العربية والإيقاعات الشرقية، واتسمت ألحانه للأدوار بالتنوع والثراء؛ فطرق في ما لحنه مقامات عدة، وحصر محمود عجان 23 دوراً للمسلوب من مقام الراست، و3 من النهاوند، و4 من النوا أثر، و11 من البياتي، و2 من الحسيني، ودوراً واحداً من القارجهار "الشوري"، وواحداً من الصبا، وخمسة من الحجاز، ودورين من العشاق، و5 من العراق والأوج، و3 من السيكاه، و3 من الجهاركاه.
شاعت أدوار المسلوب عبر أصوات كبار مطربي عصر النهضة الموسيقية، وعلى رأسهم الحامولي وعثمان، ثم استمرت مع الجيل التالي، ولا سيما مع دخول شركات الإسطوانات مصر، فسجل فطاحل أهل المغنى أدوار الشيخ، ويأتي في مقدمة هؤلاء المطربين: الشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسليمان أبو داود، والشيخ سلامة حجازي، وزكي مراد، والشيخ أبو العلا محمد، وداود حسني، وعلي عبد الباري، ومحمد سالم الكبير، ومحمد السبع، وصالح عبد الحي، وإبراهيم شفيق.
ومع اندثار عصر الأسطوانة، وبزوغ عهد الإذاعة، وبدء عصر جديد للغناء يختلف تماماً في تفاصيله وملامحه عن غناء الحقبة الحامولية، سجل بعض المطربين الإذاعيين أدواراً للمسلوب، ومنهم بديعة صادق، وكارم محمود، وعائشة حسن، وسيد مكاوي، كما سجلت "الفرقة القومية للموسيقى العربية"، بقيادة عبد الحليم نويرة، بعض أدوار الشيخ.
ومن أمثلة أدوار المسلوب في مقام الراست: "أديني الحب أديني" وسجله سليمان أبو داود، و"خلي صدودك وهجرك" وسجله عبد الحي حلمي، و"سباني سهام العين" وسجله زكي مراد وأبو العلا محمد، و"شربت الراح في روض الأنس" وسجله عبد الحي حلمي، و"الورد في وجنات بهي الجمال" وسجله يوسف المنيلاوي.
ومن أدواره في مقام النوا أثر: "جمال خدك بيتعاجب" وسجله عبد الحي حلمي، و"في زمان الوصل الهني" وسجله المنيلاوي وزكي مراد، وإن كان الأخير يغنيه من النهاوند، و"دور يا منية الأرواح جد لي"، بصوت سليمان أبو داود، وأيضاً دور "العفو يا سيد الملاح"، وسجله عبد الحي حلمي، وسليمان أبو داود، وبمبة العوادة، وبديعة صادق.
ومن مقام البياتي، لحن المسلوب أدوار: "جميل زمانك لك صفا"، وسجله عبد الحي حلمي، وأحمد صابر، و"الحبيب لما هجرني"، وسجله محمد نجيب ومحمد نوح، و"سيوف لواحظ حبيبي"، و"يا قلب مين قالك تعشق"، و"ياللي أوصافك مليحة"، وسجله عبد الحي حلمي وسليمان أبو داود.
ولحن المسلوب عدداً من الأدوار بمقام الحجاز، منها: "حسن الحبيب فاتن"، وسجله محمد سالم الكبير، وسليمان أبو داود، و"فريد المحاسن بان"، وسجله عبد الحي حلمي وسليمان أبو داود، وداود حسني، و"في مجلس الأنس الهني"، وسجله عبد الحي حلمي، وسليمان أبو داود، وصالح عبد الحي، و"الفرقة القومية للموسيقى العربية".
عاش الشيخ المسلوب حياة طويلة، وإن كان لا يعرف عام ميلاده على وجه الدقة، وبينما اختار كمال النجمي أن الشيخ ولد أواخر عهد المماليك، وتحديداً في إماردة المملوك "البرديسي بك"، وأنه عاش حتى عام 1928، حدد محمود عجان عام ميلاد الشيخ بـ 1794، وحدد بدقة تاريخ وفاته في 13 يوليو/تموز 1927. وبالطبع، فإن بعض الباحثين يشككون في دقة هذه التواريخ، ولا سيما تاريخ الميلاد، لكنهم متفقون جميعاً على طول عمر الرجل، وأنه عاش قرناً من الزمان على التقدير الأقل.
من أهم الأسباب التي دفعت كل من يتابع تاريخ الفن الغنائي المصري لأن يجعل المسلوب هو الرأس، والمنتهى، وشيخ الشيوخ، أن لم يصلنا لحن يعرف صاحبه، قبل الرجل. بالطبع هناك ألحان أقدم، لكنها مجهولة الملحن. وكل تتبع للألحان المدركة التي يعرف ملحنها، ومحاولة الوصول إلى أبعد نقطة في هذا الميدان وأقدمها، توقفت وانقطعت عند اسم الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، فصار بهذا رأس الغناء المصري المدرك، وشيخه الأول، الذي حظي بالتقدير والإجلال من كل من عاصره وأخذ عنه علوم المقامات والإيقاعات.