الشهرة الموسيقية زمن الإنترنت... كتاب للوجه وكاميرا جوّال

10 يناير 2021
تُصبح للشهرة قيمة تجارية مضافة إلى فنّ الموسيقي ومستقلة عنه (Getty)
+ الخط -

فيما أنت تقرأ هذه السطور، لعلّك تتوق إلى أن تذهب بإبهامك إلى أحد حساباتك على الإنترنت، كفيسبوك وإنستغرام، أو تويتر، لتنظر في ما إذا كانت لقطة لك في المطبخ، وأنت تُعدُّ صحن فول بالحمص والطحينية، قد أثارت شهيّةً، أو خاطرة نثرية نشرتها - مصحوبة بصورة شخصية - تخالها قد أحدثت وقعاً، قد تصلح لأن تكون قولاً مأثوراً أو معلّقة شعرية... أو إن كنت من بين من يعزفون على إحدى الآلات الموسيقية، وسارعت في لحظة صفو وزهو إلى ركن جوّالك على طاولة مجاورة، حيث تلتقط عدسته أناملك وأنت تؤدي وترتجل على هواء يوتيوب - لايف بحضور من صدف وجوده أونلاين - وما زلت متشوقاً لأن ترى إن كان قد لاقى إبداعك أيّ صدى.

نقول لك: لا تقلق. كن على يقين بأن أحدهم على الأقل، لا بد وأن ضغط لك لايك. وأنك قد حصلت للتو على عدد سيبدأ بواحد، ولن ينتهي عنده من المُحبّين. أو، يمكن أن تكون قد حصدت الملايين، وكسبت مئات الآلاف من المتابعين والمنتسبين؛ فأصبحت من حيث لم تدرِ من مشاهير زمن الإنترنت.

أولئك المشاهير هم نحن، من تصفهم الباحثة في أنثروبولوجيا الثورة الرقمية كريستال آبيدين Crystal Abidin، في كتابها المشوّق والمعنون "الشهرة على الإنترنت" بـ"المشاهير المجهريين" Micro Celebrities، وقد باتوا اليوم في المحصلة جميع البشر ممن ينشطون قليلاً أو كثيراً على واحدة أو أكثر من منصّات السوشيال ميديا. غايتهم، وبمقتضى البيئة السوسيو - رقمية، جذب ولو شيئاً من الاهتمام، ونيل بعض الاستحسان، ولربما أيضاً تحقيق قدرٍ نسبي من شعبية صارت باستطاعة كل مُستخدِم User على اختلاف جنسه وفئته العمرية، وبغض النظر عن ثقافته ومهارته الفنية وموهبته الإبداعية. 

الأداء الموسيقي، سواء أكان عزفاً أم غناءً، هو في أحد أوجهه وسيلة تعبير مجازي عن مشاعر وأفكار تشغل البال والوجدان، تبحث لها في أغلب الأحيان عن آخر يصغي إليها، يتأثر لها وبها ويتفاعل معها - حبذا لو كان ذلك طبعاً طرباً وإطراءً. وبهذا، يبدو الإنترنت، بمنصّاته المتشابهة بوسائلها الإعلامية البصرية والسمعية المتاحة والمجانية، وأدوات تفاعلها الاجتماعية المرتكزة على ردود الفعل الإيجابية Feedback Loop، المُفرِزة لهرمون الدوبامين المُشبع للأنا والمُكيّف للمزاج، كما لو أنه البيئة المُثلى بالنسبة إلى الموسيقي الهاوي أو المحترف من أجل بلوغه جمهوراً من المستمعين، كبُرَ أو صغُر، وأحياناً، نيله شهرةً قد تبقى ضيّقة محدودة، وقد تصبح واسعة مستدامة.

تتحول شهرة الفنان إلى سلعة بحد ذاتها تشتريها وسائل الإعلام

شهرةٌ لم يكن ليحلم بها أحدٌ في ما مضى، من دون المرور عبر بنى الإنتاج التقليدية الصلبة والهرمية. وقتها، اقتصر أمل المُغني أو العازف، على لفت اهتمام أحد الوكلاء، أو جلب انتباه أحد المُنتجين، ومرّاتٍ إغوائه، فيُمنح بالمقابل عقد تسجيل وطبع ألبوم في واحد من الاستديوهات الاحترافية قد تصل كلفة إنتاجه إلى عشرات الآلاف من الدولارات.

يُسوّق الألبوم من بعد ذلك من طريق تنظيم حفلات وجولات فنية، ويحظى بتغطية صحافية وإعلامية، وتواتر مطرد في البث على أثير الإذاعات المحلية والدولية. وإن أتيح له المزيد من الموارد، تُصوّر بعضُ الأغاني بأسلوب الفيديو كليب، وتباع للقنوات التلفزيونية الترفيهية. وفي نهاية المطاف، يُرشَّح الفنان وألبومه والقائمون عليه لنيل إحدى الجوائز العالمية، الأمرُ الذي يكفل لمشواره الفني المهني الاستمرارية في النجاح، وللجهة المنتجة المزيد من جني العوائد والأرباح.

إلا أن الشهرة، كسمة عامة أو صفة مكتسبة، غالباً ما تتجاوز النطاق الزمني والمكاني للمُنتَج الإبداعي، وذلك بحسب بحث أجراه المُختص في دراسة أنماط الشهرة وشخصّية المشاهير، جرايمي تورنر. ففي الثقافة الرأسمالية المعاصرة، عادة ما تتحول شهرة الفنان إلى سلعة بحد ذاتها تشتريها وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، والفضائحية، تُلاحق تفاصيل حياته العامة والخاصة التي قد لا تمت بصلة مباشرة إلى مجهوده الفني ومقدوره الإبداعي. وعليه، تُصبح لشهرة الفنان قيمة تجارية مضافة إلى فنّه، تستقل عنه، تبقى من بعده وتفوقه أثراً في الكثير من الأحيان.

للشهرة الفنية، بوصفها قيمة مضافة مستقلة عن العمل الفني، تاريخ طويل وسوابق ماضية، بالأخص في الحقبة الرومانسية منتصفَ إلى آخر القرن التاسع عشر، حين فُطِم الفن عن الكنيسة والبلاط، ونما كصناعة مُدرّة وتجارة مربحة. عندها، عمّت شهرة بعض المؤلفين الموسيقيين الكاريزماتيين أرجاء أوروبا والأميركيّتين، حتى سبقتهم إليها ليطغى بريقها وليدوي صداها أعلى من بعض أعمالهم. 

لئن لم تُثر مثلاً أوبرا تريستان وإيزولده الكثير من الحماسة عند عروضها الأولى في العاصمة الفرنسية باريس، فإن شهرة مؤلفها الألماني ريتشارد فاغنر، لدى الجمهور الفرنسي، لم تتأثر فحسب، بل ازدادت قدماً لتنتشر بين النخب ضمن مشهد ثقافي عُرف حينها بالفاغنرية Wagnerisme؛ اصطلاحاً لرؤية فنية ومنهجٍ فنيٍ ونهجٍ في الفكر والسياسة وفي الحياة، اقترب معه من عبادة الفرد. 

أما معاصرُه عازف البيانو والمؤلف الهنغاري فرانز ليست، فيُعد الأخير استكمالاً لدرب سار عليها من قبله عازف الكمان والمؤلف الإيطالي نيكولو باغانيني، أوّل تجسيد لما بات يُعرف في العصر الحديث برمز الإثارة الجنسية Sex Symbol وذلك لما كان لمحض حضوره ولمجرّد سماع اسمه قبل سماع عزفه، من سحرٍ جعل النساء يُغمى عليهن أو يُلقين بحليّهن وجواهرهنّ أمام قدميه إن همّ باعتلاء الخشبة، وذلك قبل فرقة كـ"البيتلز" أو نجم كـ"مايكل جاكسون" بأكثر من مئة عام.

من غير الدقيق الزعم أن الشهرة، قبل عصر الإنترنت، استندت دوماً إلى الموهبة والكفاءة أولاً، وأنها، قبل أن تُسلّع إعلامياً وتصير قيمةً مُضافة ومُنتجاً مُستقلاً، كانت تسبقها، وتؤدي لها، وتُمهّد إليها، كل من الجودة الفنية والجوهر الإبداعي. إذ إن حسابات الرواج في أذهان حُرّاس البوّابات Gate Keepers من وكلاء ومُنتجين ومُسوّقين، وحتى لدى الفنانين أنفسهم، لطالما أخذت في الحسبان عوامل أكثر شكلية وأشد سطحية تتعلق بالحسن والجمال، علاوةً على عامل الحظ والصدفة والعلاقات العامة في الكثير من الأحيان.  

إلا أن النوعية لم تكن يوماً بالقدر الضئيل من الأهمية والمدى الواسع من الهامشية، وعلى تلك الدرجة من الثانوية كما تبدو عليه اليوم في زمن الإنترنت والسوشيال ميديا. فالمنابر المشاع التي تُتيحها المنصات الرقمية، علاوة على انتشار ظاهرة الـ DIY (اصنعه بنفسك Do It Yourself)، حيث يُصبح بالإمكان إتمام مختلف مراحل الإنتاج منزلياً وبتكلفة منخفضة نسبياً، من تسجيل صوت، مروراً بتصوير فيلم، فتقطيعه وإنتاجه، ومن ثم رفعه ومشاركته من دون وسيط فني أو تقني؛ من المستخدِم إلى المستخدِم؛ حالٌ جديدة، لم تعد تُوفّر أيّ غربال يفصل الغث عن السمين.

الأصالة بمعنى انسجام الشخصية في المسلك والحضور مع الذات الأصلية Authenticity، دونما تصنّع ولا تكلّف، حتى وإن أتى بفعل التدرّب والتمرّس، ثم القدرة على الاستثارة الحسية والاستمالة العاطفية، ومظاهر الخفّة والغرابة والطرافة بالإضافة إلى الجاذبية الجنسية، قد كانت ولا تزال من بين المعايير في الاستئثار بقلوب الناس وعقولهم، إلا أنها اليوم أصبحت المفاتيح إلى كل من يطمع بشهرة الإنترنت، ويصبو إلى تحقيق الجماهيرية أونلاين. 

بحسب مصادر أبيدين في معرض كتابها، يرصد الباحث في الإعلام الجديد، ديفيد مارشال، كيف أن الشهرة قد انزاحت مفهومياً (conceptually) في عصر الإنترنت من كونها في السابق تمثيلية representational - أي حين يُجسّد المشاهير لنا ما نحلم به وما نتطلّع إليه من مكانة ومنزلة أو من نعيم وجاه - لتصير في زمن السوشيال ميديا تقديمية Presentational حيث لا يعود من داعٍ إلى أن تنوب نُخبة مصطفاة من البشر عن البشر في عيش الحُلم، وتُطوّب بذلك كأنصاف آلهة، بينما صار بمقدور كل مُستخدم أن يُقدّم نفسه علامة تجارية Self-Brand من خلال صفحته على فيسبوك أو حسابه على تويتر.

لئن أصبحت الشهرة، إذاً، في متناول كل إنسان، فلا يجدر بها بعد اليوم أن تكون هاجسَ أي فنان. إذ لم تعد الشهرة إحدى السبل إلى إنتاج الفن، والفن بدوره لم يعد بالضرورة إحدى السبل إلى إدراك الشهرة. لم يعد وصول الفنان إلى المتلقي مقترناً بتأسيس مسار مهني مبني على القواعد الهرمية القديمة، لا بل حتى فنانو اليوم من بين أولئك "المشاهير التقليديين" (على حد وصف آبيدين) باتوا ينتحلون صفة المشاهير المجهريين بغية تواصل أكثر مباشرة وحميمية مع جمهورهم العريض، حتى لو اقتضى ذلك توظيف من ينوب عنهم في إدارة مواقع تواصلهم الاجتماعي، محاولين تزييف الأصالة.

وفي هذا تحريرٌ للفنان، فالأنا التي تشتهي طعم الشهرة، وتتعطّش إلى جرعة منعشة من الجماهيرية، ليست بحاجة بعد اليوم إلى طرق أبواب الفن والعمل في أحد المجالات الإبداعية؛ إذ يكفي المرء أن يلتقط لنفسه "سيلفي" في نادٍ رياضي، أو في حوض للسباحة، كي ينوبه قسط، ولو يسيراً، من الإعجاب والمتابعة. أما إن أراد أحدهم حقاً أن يُنتج فناً، بعيداً عن ضياء الشهرة أو حتى في ظلالها - ولمَ لا؟! - فليُعِد خَلق العالم مِن حوله، جاعلاً كل مَن حوله أفضل تعاسةً، وإن إلى حين.

المساهمون