محمد الشريف الطريبق: الكتابة عن السينما محاولة لفهمها ولتنظيم الأفكار

15 ديسمبر 2021
محمد الشريف الطريبق: أنا "سينيفيلي" نشأت في الصالات ونوادي السينما (الملف الصحافي)
+ الخط -

لا يحتاج المُخرج المغربي محمد الشريف الطريبق (1971) إلى تقديمٍ، لمراكمته أفلاماً سينمائية ناجحة، كـ"زمن الرفاق" (2008) و"أفراحٌ صغيرة" (2016). يتجاوز الطريبق الصورة السينمائية، بتنقيبه في ذاكرة النقد السينمائي. ففي كتابه الجديد "ما هي السينما: كتاباتٌ وتأمّلاتٌ لمحاولة الفهم" (2021)، يرسم بروفايلاً جديداً له كمُخرجٍ يعشق كتابةً نقدية، لا تضع حدوداً مع مفاهيم ونظرياتٍ غربيّة، إذْ يجعلها تمتزج فيما بينها، وتتدفّق نقداً يخلط عنصر السيرة الذاتية بالكتابة النقدية، في بُعديها التقريري والتحليلي.

إذا كان الشريف الطريبق يتجنّب، في كتابه، الادّعاء بامتلاكه عدّة نظرية قوية، فإنّ طريقة كتابته تشي بمخزون فكري من النقد الفرنسي، المُبطّن في ذاته كمُخرج، إذ تتضمّن أسماءً عدّة من السينما الغربية، رغم حضورها كتمثّلات لا كإسقاطات.

بمناسبة كتابه الجديد هذا، كان لـ"العربي الجديد" حوار معه:

 

(*) بداية، ما الذي قاد مخرجاً سينمائياً وتلفزيونياً مثلك إلى التفكير في النقد السينمائي؟

قبل أن أكون مخرجاً، أنا "سينيفيلي"، تربّيت وتكوّنت في صالات السينما ونواديها، ولم أتلقَّ تكويناً أكاديمياً في معهدٍ. في نهاية ثمانينيات القرن الـ20 وبداية تسعينياته، عند اكتشافي شغف السينما، لم تكن الفرجة السينمائية متوافرة كما الآن، والتعويض حاصلٌ بقراءة كلّ ما كُتب عن السينما آنذاك، في مجلات دعاية ومجلات متخصّصة في النقد السينمائي، أو في كتبٍ عن السينما باللغتين الفرنسية والعربية.

يُظهر هذا أنّ علاقتي بالسينما انطلقت من التفكير فيها. إضافة إلى أنّي تربّيت في أجواء مهتمّة بالنقد الأدبي، وخصوصاً في تياراته الحديثة. التفكير في السينما رغبةٌ في التوقّف بعد أعمالٍ، لتأمّل المُنجز، أي ما حقّقته من أفلامٍ، لفهمه وفهم العلاقة التي يُقيمها مساري السينمائي مع تاريخ السينما العالمي والوطني، لإيجاد مسافة نقدية تُمكِّن من تجاوز هذا المسار، أو تطويره.

 

(*) هل تعتقد أنّ المخرج السينمائي في المغرب يمتلك شروطاً معرفية ومفاهيم جمالية، يخترق بها حدود النص؟

يُفترض بالمخرج أنْ يمتلك هذه الشروط بالضرورة، مهما كان تكوينه، أكان عصامياً، أم في معهدٍ. السينما فنّ جماهيري وصناعة، تتطلّب تكويناً ثقافياً متيناً، وإلماماً بمجلات مختلفة تتعلّق بالعلوم الإنسانية، لفهم المجتمع الذي نحكيه، ولفهم الفرد الذي نُعبّر من خلاله عن المجتمع؛ إضافة إلى التمكّن من أدوات السرد السينمائي، وتاريخ الفنّ والسينما.

بالنسبة إلى سؤالك، الذي يبدو استنكارياً، النقاش العام في المغرب اتّجه إلى انتاج صورة نمطية عن المخرجين المغاربة، على أنّهم غير مثقّفين، يعيشون في غربة عن المجتمع. لن أحكم على الأشخاص، لكنْ، فعلياً، هناك أفلامٌ بحدّ ذاتها تُبلور صورة لمخرج تقني لا يمتلك رؤية عن العالم، إنْ بالاشتغال على اقتباسٍ لاختراق النص المُقتبس عنه، والتمكّن من امتلاكه، والتجوّل فيه بسلاسة؛ أو بالاشتغال على سيناريو أصلي.

 

(*) كتابك الجديد ليس أول تجربة نقدية تخوضها، في الاقتراب من عوالم الصورة نظرياً، إذ سبقته مؤلّفات أخرى. ما الذي يستطيع النقد أن يمنحه للمُخرج، في علاقته بالصناعة السينمائية، وعوالمها التخييليّة؟

بالنسبة إليّ، الكتابة عن السينما محاولة لتنظيم الأفكار وفهم السينما بشكل عام، وفهم الذات أيضاً، والمساهمة في النقاش السينمائي الذي يعرفه المشهد الثقافي، ومحاولة تحريره من الحديث عن المال العام والإنتاج والأحكام القيميّة المتسرّعة، للارتقاء إلى حديثٍ عن السينما ككتابة. الكتابة عن السينما محاولة رسمٍ، بالخطّ الرفيع، لتاريخ السينما من وجهة نظر شخصية. أتحدّث هنا عن السينما عامة، كجواب عن سؤال بسيط: ما هي الأفلام والمدارس السينمائية التي صمدت في الذاكرة، بعد زمن الانبهار، ورسمت حكايةً. أي ما أسميته تاريخ السينما من وجهة نظر شخصية.

(*) النقد السينمائي لم يعُد مطلوباً في ندواتٍ ومهرجاناتٍ سينمائية مغربيّة، وليس غريباً أن يكون اللقاء حول النقد السينمائي بوجود ممثل أو مونتير، مع غياب الناقد. هل تعتقد أنّ لغيابٍ كهذا دوافع سلطوية أكثر منها سينمائية؟

عالمياً، مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وسيطرتها، تحوّل الترويج للفيلم السينمائي من المجلات واليوميات إلى هذه المواقع. يبدو أنّ النقد السينمائي فَقَد نسبياً الأهمية التي كانت له في الماضي، أي الدور الذي قام به في السوق السينمائية كطرفٍ مهم. محلياً، النقد السينمائي لم يعد يقوم بهذه الوظيفة، فتحوّل الى كتابة عاشقة عن الأفلام. أي إنّ الناقد يكتب في أوقات الفراغ، وعندما تكون هناك خفقة قلب، وغالباً ما تتمّ الكتابة بعد إطلاق عروض الفيلم، وليس بموازاة معه. هذه كتابة تنحو، في جزءٍ منها، إلى الأكاديمية، بنكهةٍ أكثر أدبية، وربما تساهم في النقاش العام عن قضايا السينما، وليست فاعلة في العملية الإنتاجية.

إذا كان هناك نقدٌ وعدم رضى بالمنتَج السينمائي المغربي، فالجميع يتحمّلون المسؤولية، لا المخرجون فقط، لأنّه لم تكن هناك متابعة نقدية تمكّنت من التحوّل إلى سلطة وقوّة اقتراحية، تُقارب من خارج الإنتاج، لكنْ بفهمٍ عميق بحيثيات صناعة الفيلم.

 

(*) في كتابك، تتشابك السيرة مع قضايا الصورة والمتخيّل والإخراج والتأليف. لماذا هذا النمط من الكتابة، المُتأرجح بين حميمية النصّ والكتابة التقريرية النقدية؟

الدافع الأول إلى الكتابة ذاتيّ، لا يتوخّى الأكاديمية التي تفترض نوعاً من الصرامة المنهجية. أكتب بعفوية، كما لو أنّي أتقاسم لذّة فيلمٍ، شاهدته وأعجبني، مع صديقٍ، أورّطه في مشاهدته. أكتب، تاركاً فعل الكتابة حُرّاً، يُحدّد الطريق من دون تخطيط مسبق. مرة، أحكي تجربتي الذاتية، وأتوقف عندها كمخرج ومتفرّج؛ ومرة أخرى، أكون تقريرياً، لأنّه ـ في حالة وصف آلية ـ أضطرّ إلى الكتابة بلغة جافة، لإيصال ما هو سينمائي، أي ما لا يُمكن التعبير عنه إلّا من خلال السنيما.

 

 

يهمّني أنْ يقرأ الناس ما أكتب، ولو كانوا غير سينمائيين أو مهتمّين. أجد أنّ الكتاب يتوافر على مستويات عدّة، ويمكن أن يُعتبر بيداغوجياً عن السينما، ويُمكن أنْ يكون تفكيراً عنها، وأنْ يُعتبر سيرة ذهنية. لم أتعلّم السينما في المعاهد، بل بفضل مُشاهدة الأفلام، وقراءة مقالات نقدية وحواراتٍ مع مخرجين يتحدّثون عن تجاربهم.

أعتقد أنّ من الواجب الأخلاقي كمخرج أنْ أقدّم شهادة عما أنجزته إلى الآن، ربما لأتخلّص منه، وأنتقل إلى أشياء أخرى.

 

(*) في مُؤلَّفك الجديد، تعتبر أنّ تقييم فيلمٍ انطلاقاً من اللغة السينمائية أمرٌ مغلوط. هل السبب كامنٌ في أنّ أي فيلم سينمائي له لغته الجمالية والفنية، ما يجعل التقييم عاماً ومغلوطاً؟

أتحدّث هنا عن المغرب، حيث يُقال عن فيلم متميّز إنّه كذلك لأنّه يستعمل اللغة السينمائية. هذا تقييم خاطئ أو مغلوط، لأنّ أي فيلم سينمائي، مهما كان مستواه، يستعمل اللغة السينمائية. هل تتخيّل أننا، عند قراءتنا نصّاً أدبياً، نقول الشيء نفسه؟ التقييم يجب أنْ ينطلق من الاختيارات الأسلوبية للمخرج، ومن مدى الاحتفاظ بها طول مدّة الفيلم، ومن كيفية استعمال اللغة السينمائية، والشكل الذي يقارب به الواقع، ومدى انسجام الفيلم مع ذاته ونياته المعلنة والمضمرة.

لكلّ فيلم سينمائي لغته الخاصة. كلّ فيلم سينمائي يُعيد تأويل اللغة بجعل أفق معانيه يتّسع. في فصل الفيلم الوثائقي، أتوقّف عند هذه الفكرة، لأنّ للوثائقي علاقة مباشرة بالواقع، مُقارنة بالفيلم التخييلي، ويطبعه نوعٌ من العفوية، تجعل اللغة غير ثابتة، وظيفةً ومعنى. في المقابل، وَضْع الفيلم التخيليي ومساره، إبداعياً وإنتاجياً ومدى ارتباطه بصناعة الترفيه، يجعله أكثر نمطية وأكاديمية.

 

(*) لكنْ، ألا تعتقد أنّ هذه اللغة مُتغيّرة ومُتحوّلة، كما في أفلامك، وأبرزها "زمن الرفاق" و"أفراح صغيرة"؟

ينقل الفيلمان تجربة إنسانية تختلف من فيلمٍ إلى آخر، وفي أزمنة مختلفة أيضاً. لهذا، لا يُمكن مقاربتهما إخراجياً بالشكل نفسه. اللغة تتغيّر وتتحوّل مع اختلاف التجارب التي نصوّرها، ومع الزمن، لأنّ الإحساس بالأشياء يتغيّر في كلّ لحظة. فصل "لغة السينما" أقرب إلى الإجابة عن سؤالك. فصلٌ لم يتبلور من تجربة ذهنية، بل من تجربتي كمخرج، وعلاقتي بالمادة التي أشتغل عليها، في بُعدها المادي. لاحظتُ أنّ الواقع يتحوّل في مسار صناعة الفيلم من مادة، أي محتوى، إلى وعاء لذاته، أي من مادة إلى لغة.

 

(*) في علاقة الواقع بالسينما، تُعطي مثلاً عن كيف دفعت الحرب العالمية الثانية خروج المخرج بكاميرته المحمولة إلى الواقع. هل تعتقد أنّ هذه الطفرة التقنية المحضة عامل نجاحٍ لأعمال سينمائية وتلفزيونية في المغرب؟

إذا بحثنا عن لحظةٍ، يُمكن وصفها بالطفرة، في تاريخ السينما المغربية، يظهر أنّ انفتاح التلفزيون المغربي (القناة الثانية)، بداية الألفية الجديدة، على السينمائيين، لإنتاج الدراما، وعدم الاكتفاء بالموارد البشرية للقناة، خلق دينامية للإنتاج، وتراكماً كميّاً حرّر السينمائيين من تحميل الفيلم ما لا طاقة عليه؛ بينما كان المخرج يُصوّر فيلماً كلّ عقد، ويضطر إلى صنع فيلمٍ يقول فيه كلّ شيء، كأنّ الأمر يتعلّق بكتابة وصية.

تزامن هذا الوضع المحلي مع الطفرة التقنية في العالم، أي الثورة الرقمية، التي قلبت نظام الأشياء، وجعلت الولوج إلى السينما ديموقراطياً. هذه الدينامية، المنطلقة مع بداية الألفية، وكان رائدها الراحل نور الدين الصايل، جعلت الإنتاج السينمائي يتنوّع وينفتح على الأجناس كلّها. اجتماعياً، جعلت الثورة الرقمية نفسها تصويرَ الأفلام فعلاً يومياً، لا حدثاً استثنائياً. مع هذا الوضع، يُمكن في المستقبل تحقيق تراكمٍ كيفيّ، وطفرات تجعلنا ننتقل من مستهلكين سلبيين للتقنية، إلى منتجين لها.

 

(*) تعتبر الفيلم الوثائقي عملاً يُقدّم رؤية إخراجية مغايرة وجديدة، استناداً إلى سياقٍ غربي. إلى أي حد يُمكن اعتبار الأفلام الوثائقية المغربيّة الجديدة قويّة، وذات علاقة تربطها بالسياق الفكري الغربي الذي تتناوله؟

لفترة طويلة في التاريخ السينمائي المغربي، لم يكن يُعتَبَر الفيلم الوثائقي إبداعياً. كانت تُسقَط عنه صفة السينمائي، وكان هناك خلط كبيرٌ بينه وبين الريبورتاج التلفزيوني. حتّى القوانين المنظّمة للمهن السينمائية في المغرب لا تعترف به وبمخرجه. انتظرنا طويلاً ليدخل هذا الفيلم إلى المسابقة الرسمية في "مهرجان الفيلم الوطني"، علماً أنّ هذا حصل في مراحل مختلفة، ولا تزال الطريق طويلة.

تاريخ الفيلم الوثائقي في المغرب لا يزال لا يتيح المسافة النقدية الكافية لتقييمه. المهمّ أنّ الإنتاج يتطوّر، وسيصنع حتماً تقاليده، وبالتالي علينا الانتظار قليلاً. منذ فترة، هناك مهرجانات في المغرب تهتمّ بهذا النوع، ما يُساهم في تطوير التجربة الجنينية، ويتيح لها إمكانية الاحتكاك بالتجارب الدولية.

المساهمون