الطفرة التكنولوجية، التي شهدها العالم منذ مطالع الألفيّة الجديدة، فرضت مساراً مُغايراً في عملية إنتاج المعرفة السينمائية، وجماليّاتها ووسائطها ووسائل تلقّيها، من العاملين في الصناعة السينمائية، تأليفاً وإخراجاً ونقداً. لم يعُد المتلقّي محتاجاً إلى استهلاك العمل السينمائي، ما يجعله مجرّد كائنٍ يستقبل المنتوج من الخارج، بل يظهر ـ أحياناً كثيرة ـ الدور البارز الذي يلعبه المتلقّي في التأثير على جمعية ثقافيّة، أو مهرجانٍ فني، أو فيلمٍ سينمائي.
ما شهده العالم العربي عام 2021، من جدلٍ ونقدٍ في التعامل مع تظاهرات فنية وأفلام سينمائية، يكشف المَكانة التي بلغتها وسائل التواصل الاجتماعي في تقديم أحكامٍ جماليّة، تختلف بين شخصٍ وآخر، وتتّخذ بُعداً عضوياً في علاقة الفيلم بالموضوع، لكنّها لا تستطيع أنْ تخترق بجرأةٍ مَعالم الصورة السينمائية، فنياً وجمالياً، مع أنّ فيزيونوميّة السينما العربية لم تتغيّر، باستثناء جهود قليلة في تونس ولبنان وفلسطين والأردن، حيث استطاع مخرجون عديدون فرض مُنجزهم السينمائي، ولفت انتباه المُشاهد الأجنبي، بفضل ما في أفلامهم من اشتغالاتٍ وجماليّات، في ارتباطها العُضوي والوثيق بالواقع العربي.
لم تعد السينما العربية مجرّد تقطيعٍ مَشهديّ، يُحوَّل إلى صورةٍ سينمائية، كما كان يحدث في سبعينيات القرن الـ20. فالفعل السينمائي بات ضرورة مُلحّة للتفكير في إمكانيّة تطويق الإطار، وتهديم الواقع، وتفكيك بناه الداخلية، ما يجعل عملية إنتاج الصورة فكراً، فترصدها المُخيّلة، وتُبلورها العين، وتُكرّسها الكاميرا كفعلٍ إجرائي.
هنا، تغدو السينما آلة جبّارة في إنتاج فكرٍ جديدٍ، يُكسّر البديهيات، ويدحض الإيديولوجيات التي يختزنها اللاوعي، ويُبلورها ـ في كلّ مناسبةٍ ـ الخطاب المكتوب، الذي أصبح في موضع ارتباك وتشكيك دائمين، لما تُوفّره السينما للمُشاهد من قدرةٍ على التحليل والاشتباك مع خطاب الصورة. ففي هذه السينما حمولات سياسيّة واجتماعية ونفسيّة، تجعل المخيّلة تنسج وشائج قوية مع مفهوم التأويل. ذلك أنّ الصورة السينمائية المُتحرّكة حمّالة أوجهٍ، تُبلور في دقيقة واحدةٍ ـ عبر اللقطات ـ عشرات الحقائق. لذا، يجد المُتلقّي نفسه تلقائياً مُنصاعاً لسحرها، بل تجعله مُشاركاً في صناعة مُتخيّل الفيلم في ذهنه كمُشاهدٍ.
هذا التعدّد التركيبي ـ الذي تتميّز به الصورة السينمائية، ما يجعلها مفتوحة على مختلف الأهواء والتأويلات ـ ساهم في ذيوعها لا كفنٍّ برجوازيّ، تتوسّله النخبة للترفيه، بل كوسيط بصريّ شعبي، قادرٍ على اختراق الاجتماع العربي بكل حدوده وأوضاعه. لذلك، يُعدّ الانفتاح ـ الذي تُتيحه الصورة وسائطياً ـ عاملاً مهمّاً في بروز ذائقة المُتلقّي، لا كمُستهلكٍ بل كذاتٍ مُفكّرة، قادرة على تأجيج الجدل، وخلق معنى جديد للفيلم السينمائي العربي.
لم تعد السينما العربية مجرّد تقطيعٍ مَشهديّ، يُحوَّل إلى صورةٍ سينمائية
تميّزت سينما 2021 بتنوّع المواضيع، وغنى الأساليب السينمائية في القبض على العابر والزائل والمنفيّ والمُهمّش، في ذوات ونفوس في الاجتماع العربي. الرغبة في التجديد حاضرة في كل فيلمٍ، لكنّ التجديد لم يتحرّر من بُعده التقني، المُتمثّل بالصورة، ما يجعل معظم الأفلام مُرتبكة كتابةً، إذْ لا تقوى على اختراق الواقع، لأنّها تظلّ سادرة أمام عتبة هذا الواقع، فتُفضّل أنْ تُوثّقه، بدل أنْ تتخيّله أو تُفكّكه، أو حتّى أنْ تجعله مُختبراً للتجريب والتفكير وطرح الأسئلة.
السينما المغربيّة عام 2021 نموذج لسينما غير مُنتمية إلى كوكب الأرض، لإقامتها في مواطن لا أحد يعرفها باستثناء المُؤلّف والمُخرج. معاً، يُقدّمان واقعاً كاذباً ومُفبركاً، لأنّ الفيلم الحقيقي كتبته لجان الدعم في هذا العام، وتواطؤاتٍ. وإلاّ، كيف يُفسّر العطب الذي ألمّ بها، وبعشرات السيناريوهات المُدعومة والهشّة، التي لا تصلح حتّى لإعادة الكتابة، فكيف بالأحرى للتصوير ثم العرض؟
يهرب المخرج المغربي إلى سيناريوهات أغلبها تاريخيّة، ليتهرّب من ممارسة نقدٍ صريحٍ للسُلطة وميثولوجياتها. المُشاهد المغربي يمتلك من الحدس ما يجعله يفطن لجوهر هذه اللعبة الناعمة وخفاياها، التي باتت تُمارَس في السينما. كلّ هذا حصل مع بروز قدرات مخرجين ومخرجات من لبنان والأردن وسورية وفلسطين في تجريبٍ يأخذ شكل مُغامرة سينمائية، تبدأ بالصورة كمدخلٍ بصريّ، وتنتهي بالواقع، لا كفضاءٍ وجوديّ حيّ، تتحرّك فيه القصص والحكايات، بل كـ"براديغم" فلسفي، يحتاج إلى تفكيك بصريّ دائمٍ. الأفلام القصيرة لهؤلاء تمتلك فسحة تأمّل، وخصوصية نوعية في ممارسة نقدٍ مُبطّنٍ لسُلطةٍ لا ترى إلا نفسها في الوجود اليومي. سهولة الكتابة والتكثيف والاكسسوارات وعملية الإنتاج تجعل عدداً من التجارب الجديدة تنتج أفلاماً ذات ميزانيات بسيطة، لكنْ بقدرات لامعة على اللعب بالصورة ومُتخيّلها وتجريدها في كلّ مشهدٍ، على شكل شهادةٍ تستحقّ أنْ تُوثّق وتُروى. أمّا الروائي، فله خصوصياته عربياً، لكنّ اشتغالاته تظلّ عسيرة هذا العام إنتاجياً، بسبب كورونا وهشاشة الوضع الاقتصادي، ما يُغيِّب التخييل السينمائي، إلى درجة تبدو السينما معها كأنّها تاريخانية، لا تستجيب صورها إلاّ إلى وقائع ماضويّة، علماً أنّ أفلاماً أخرى ترصد الواقع العربي في علاقته بتاريخ بلده وذاكرته.
يُسجّل المُشاهد العربي مُلاحظة مهمّة في ختام هذا العام، باعتباره عام مهرجاناتٍ بامتياز. الجدل الذي سبّبته كتابات عن هذه المهرجانات قويٌّ، والأسئلة التي طرحتها أقلام نقادٍ وصحافيين من شأنها خلق جدل سينمائي، إذا تمّ توجيهه واستثماره في كتابات رصينة، تحترم النسق المعرفي والشرط المنهجي في بلورة فكرٍ سينمائي.
هذا لم يحدث عربياً، رغم دخول المُشاهد عبر وسائل التواصل في النقاش. ففي المغرب، بدا الناس كأنّهم يتركون وظائفهم، ويُعيّنون أنفسهم رؤساء مهرجاناتٍ سينمائية. هكذا، تربّع أساتذة وأعضاء نواد وجمعيات على رأس مهرجاناتٍ مغربيّة، لا تعرض إلاّ القديم الذي أُنهك عرضاً ومُشاهدة وكتابة، ما جعلها تبدو في صورة باهتةٍ ومُرتبكةٍ، لا تحمل ذرّة من المهنية.
رغم هذا الجدل، المرافق لمهرجانات سينمائية مغربيّة، لم تُحرِّك السُلطة ساكناً، لأنّها المُستفيد الأكبر من هذه اللعبة، حيث يتحوّل المهرجان من فضاءٍ للمُشاهدة والنقاش والنقد والتحليل إلى مكانٍ للفسحة والاستجمام. أهميّة الجدل تبدأ من اللحظة التي يُصبح فيها خطابه ثورياً، ويُفكّك ميثولوجيات المؤسّسات، ويُعرّي تواطؤها مع السلطة.
الأمر نفسه حصل مع أفلامٍ عربيّة عدّة، استطاعت تحريك أهواء المُشاهد، وأهمّها "ريش" (2021) للمصري عمر الزهيري، كنموذجٍ سينمائيّ، لعب الجدل الحاصل بسببه دوراً كبيراً في طرح أسئلة حقيقية عن علاقة الواقع بالحقيقة، والصورة بالسُلطة، في مُجتمعٍ متصدّعٍ ذي سلطة قاهرة، وغير مكترثةٍ بأحلام الناس، وغير قابلةٍ للتفاوض والاعتراف بالسينما كفضاءٍ للتخييل والإبداع، اللذين يرتكزان على الواقع فقط، كسندٍ فكري يُخلّص الصورة السينمائية من تجريديتها، ويُمركزها في سيرة واقعية/مُتخيلة، تتأرجح بين المرئي واللامرئي. لكنْ، بقدر ما حرّك الفيلم حساسيات في المجتمع المصري وخارجه، أعاد مجدّداً مفهوم الجدل السينمائي إلى المَشهد الفنّي العربي، خاصّة أنّ هذا الجدل لم يبقَ حكراً على مخرجين ومخرجات ونقّاد وصحافيين وصنّاع سينما، لامتداده إلى نخب أخرى، في الأدب والإبداع. إضافة إلى شرائح اجتماعية خارج الصناعة الثقافيّة، استطاعت التأثير في خصوصية الجدل المرافق لـ"ريش"، والدخول في مُناوشاتٍ مع الصورة ومُتخيّلها، وفهم طبيعتها وأنماطها وعلاقتها بالواقع المصري.