أرهَقَت السينما الجزائرية، في عهد عبد العزيز بوتفليقة، خزينة وزارة الثقافة، نظراً إلى الأغلفة المالية الكبيرة التي رُصدت لها. في المقابل، لم تنعكس أيّ قيمة فنية على معظم تلك الأفلام، حتّى أنّ هناك أعمالاً استهلكت أموالاً كثيرة، لكنّها لم ترَ النور إلى اليوم. هذا كلّه بتواطؤ مفضوح من مسؤولين فاسدين ونافذين في النظام وخارجه، بعد أنْ جعلوا من السينما وسيلة لتبييض الأموال، وتكميم الأفواه، وتهريب العملة الصعبة، والتربّح السريع.
بعد "ثورة 22 فبراير" (2019) الجزائرية، زال رأس هذا النظام وعدد من رموزه. لكنّ النظام الجديد، وإنْ كانت لديه مشاكل كبيرة مع المعارضة وأقطاب الحراك، أظهر نيّة لخدمة صناعة السينما، مُستحدثاً منصباً وزارياً متمثّلاً بـ"كتابة الدولة للصناعة السنيماتوغرافية"، ومُكلّفاً الممثل يوسف سحيري برئاستها. سوء الحظ حصل بالتزامن بين هذا التغيير التنظيمي مع الانخفاض الحادّ في سعر البترول وانتشار "كورونا"، اللذين أثّرا، بشكل كبير، على الفعل السينمائي وحركيّته، رغم أنّ الجمهور يكاد لا يشعر بالتأثير، فحركة السينما في الجزائر بطيئة جداً، لأنّ معظم قاعات السينما مغلقة، حتّى قبل تفشّي الوباء، باستثناء قاعات الـ"سينماتيك"، التي تعرض أفلاماً قديمة، تنفيذاً لبرامج مُتعلّقة بمناسبات وظروف معيّنة.
بالإضافة إلى ذلك، ورثت "وزارة الثقافة" و"كتابة الدولة للصناعة السينماتوغرافية" ملفات ملغّمة، بإشراف الوزيرين السابقين خليدة تومي وعزّ الدين ميهوبي، كملف فيلم "العربي بن مهيدي"، الذي رفضت وزارتا المجاهدين والثقافة التصريح بعرضه، بحجّة أنّ بعض مَشاهده غير موجودة في السيناريو المتّفق عليه. هذا الأمر رفضه المخرج بشير درايسن، المتمسّك بمبدأ حرية التعبير، وعدم الخضوع لإملاءات السلطة الرسمية، التي تريد تاريخاً مكتوباً ومُفصّلاً على مقاسها. كما اتّهم درايسن سابقاً الوزير ميهوبي (الذي سُحب منه جواز السفر حالياً تمهيداً لمحاكمته) بالوقوف خلف منع عرض الفيلم، لأسباب شخصية.
حتّى بعد ذهاب النظام القديم، الذي كان يعمل بطريقة المافيا، لا يزال الفيلم حبيس الأدراج إلى اليوم، ولا يزال المُشاهد ينتظر مُشاهدته، بحكم أنّ العمل استهلك أموالاً كثيرة من أموال الخزينة العامة.
هذا الفيلم ليس الوحيد الذي طاولته يد ميهوبي، الذي كان يتدخّل في كلّ ما له علاقة بالأفلام المُنتجة والمُقدّمة في عهده. أكثر من هذا، ذُكر اسمه حالياً في ملفّات سينمائية عدّة، تحوم حولها شبهات فساد كبيرة، كـ"بن باديس" للسوري باسل الخطيب، و"أحمد باي" للإيراني جمال شورجه، الذي لم يعرض بعد، والذي نفّذت إنتاجه مؤسّسة سميرة حاج جيلاني، المتّهمة بقضايا فساد كبيرة، وتقبع حالياً في السجن. وسبق لهذه الأخيرة أن عملت في المكتب الإعلامي للوزير ميهوبي، المرشّح السابق للرئاسيات، والمذكور اسمه في قضايا سينمائية أخرى، أبرزها تدخّله المباشر في عمل لجنة قراءة السيناريو في "وزارة الثقافة"، والذي أقال أعضاءها مباشرة بعد رفضهم دعم مشروع فيلم "أخوات" ليمينة بن غيغي، المخرجة والوزيرة الفرنسية السابقة، الجزائرية الأصل؛ كما أقال شهيناز محمدي، مديرة "المركز الجزائري لتطوير السينما"، التي رفضت هي أيضاً تحويل مبلغ مالي للمخرجة نفسها. ونجح بطريقة أو بأخرى في تحويل حوالي مليون دولار لفيلم بن غيغي، المُقرّبة من آل بوتفليقة، لتجثم هذه الأحاديث على النقاش الدائر حول السينما الجزائرية حالياً، فالنقاش يتجدّد دورياً، حتّى يملأ الفراغ، ويُحرّك مياه السينما الراكدة.
كما أنّ هناك قضايا عدّة لم يُفصَل فيها بشكل نهائيّ بعد، كتنظيم مهرجاني "وهران للفيلم العربي" و"عنابة للفيلم المتوسطي"، وتنصيب محافِظَين لهما، وهما أهم حدثين سينمائيين في الجزائر، بالإضافة إلى قوانين القطاع والبتّ في ملفات المدن السينمائية، واستحداث نظمٍ جديدة لإحياء نشاطات سينمائية، وهذا الرهان الأكبر الذي يحمله يوسف سحيري، كاتب الدولة للصناعة السينماتوغرافية.
كسر خبر مشاركة الفيلم الروائي الطويل الأول لقمر أينوز، "سيجار العسل" (إنتاج جزائري فرنسي بلجيكي قطري)، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، جمود الساحة الثقافية الجزائرية، خاصّة أن المشاركة ليست وحيدة في هذا الحدث السينمائي، المُنظَّم في وقتٍ استثنائي، فهناك روائيّ قصير لمريم مسراوه بعنوان" تحت جلدها". كما اختير فيلمان روائيان طويلان، "هاجر" لأنيس جعاد و"سولا" لصلاح إسعاد، لمنحة "جسر إنتاج فينيسيا"، بعد اختيار "الحمض النووي (ADN)"، للفرنسية ذات الأصل الجزائري مايوينن (إنتاج فرنسي جزائري)، في المسابقة الرسمية للدورة الـ73 لمهرجان "كانّ" السينمائي، التي كان يُفترض إقامتها بين 12 و23 مايو/أيار 2020، قبل إلغائها بسبب كورونا.
هناك أفلام أخرى أيضاً استفادت من "صندوق دعم السينما" في "وزارة الثقافة والفنون" لم يُعلن عن انتهائها بعد بسبب الوباء، كما أنّ مخرجيها يبحثون عن فرصٍ لمشاركتها في مهرجانات سينمائية، ليكون خبر المشاركة إعلاناً لميلادها.
من التجارب السينمائية غير المعروضة بعد، التي يُتوقّع بأنْ تكون معقولة استناداً إلى مواهب مخرجيها: الروائي القصير "سيعود" ليوسف محساس، الذي انتهى تصويره؛ وفيلم التحريك القصير "ليلة بيضاء" لعصام تعشيت، المُصوّر بتقنية الـ"ستوب موشن"، وسيجهز عرضه بعد أسابيع قليلة: "إنّها أول تجربة لي في هذا المجال. التجربة جميلة جداً لكنّها صعبة"، كما قال تعشيت لـ"العربي الجديد"، علماً أنّه أمضى 3 أشهر في تركيب الديكور والتصوير: "كنتُ أعمل عليه بلذّة كبيرة"، لاعتباره التجربة "تحدّياً عليّ أنْ أخوضه". في الوقت نفسه، سيفتح بعمله هذا مجالاً أمام شباب كثيرين لاختبار العمل في هذا النوع من الصناعة السينمائية: "القصّة خيالية، لكنّها ترتبط بالواقع. تتركّز الفكرة حول كرة ثلج تسقط من شجرة وتتدحرج، فتصل إلى منزل فتاة. حينها، تتّخذ هيئة رجل الثلج، فتقع بينهما أحداث. في النهاية، يختفي رجل الثلج لعدم قدرته على مواجهة الطبيعة". وعن جهة التمويل، خاصّة أنّ له تجربة سابقة ناجحة، قال تعشيت: "لم أتلقَّ أيّ دعم عن أيّ عمل قدّمته، ومن أيّ جهة كانت"، مُضيفاً أنّ هذا الفيلم من إنتاج شركته الخاصة "ايمدغاسن برود"، وتنفيذ "استوديوهات برو زوم للتصوير".