يُلاحظ في تاريخ السينما البولندية تحديداً، مُقارنة بسينما شرق أوروبا أو غربها، أنّها لم تعانِ فجوات جيلية، بالمعنى المتعارف عليه. دائماً، هناك أسماء موهوبة، أوجدت لنفسها مكانة مميزة في تاريخ السينما البولندية. هذا يدعو إلى الدهشة والإعجاب. إذْ ترتبط الفجوات الجيلية، عادة، لا سيما الفنية منها، بمراحل ضعف الأمم والبلاد، أو تدهورها أو تفسّخها أو انهيارها أو انحطاطها.
مرّت بولندا بهذا كلّه، وبأكثر منه، في تاريخها، إذْ لم تكن كياناً مستقلاً لأكثر من 100 عام. قسّمتها روسيا والنمسا وبروسيا. تمّ ترسيم حدودها، ومصادرة أراضيها، وإعادة تقسيمها وتوزيعها. رُحِّل أكثر من مليون ونصف المليون بولندي إلى كازاخستان وأوزباكستان وأوكرانيا وسيبيريا، كعبيدٍ في معسكرات اعتقال رهيبة.
رغم هذا التاريخ الصعب، لم تمت السينما البولندية، ولم تغب عن الساحة العالمية إلا نادراً. لذا، فإنّ إجراء مقارنة بين أجيال السينما البولندية عسيرٌ للغاية، نظراً إلى ثرائها وعراقتها وتنوّعها. مع ذلك، يسهل، ولو قليلاً، رصد سمات عدّة مميّزة للجيل الجديد، البارز دولياً، في العقد الأخير تحديداً. سمات مُفارقة ومغايرة إلى حدّ كبير، تكاد تُعتبر انقلاباً على، أو نقيضاً لما كانت عليه السينما البولندية في أوج مجدها، في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته.
في أعوامٍ مديدة، اهتمّت الأجيال السابقة في السينما البولندية بالماضي والهوية والتاريخ. ثم، بفعل الظروف والأحداث، انجرفت بشدّة إلى السياسة، والتحمت بها. انتقدت النظم السياسية، بمؤسّساتها وحركاتها وأحزابها، وتصدّت لسياسات الدولة، الاقتصادية أساساً، بلغة ضمنية غير صدامية، غالباً. هذه عناصر رئيسية لافتة، حتّى في الأعمال الفنية. هذا كلّه يُقدَّم في سرد سينمائي تقليدي مُتحفّظ، يميل إلى الواقعية الاجتماعية، مع انتقادٍ حاد ونافذ البصيرة، أحياناً، للعيوب الفردية والضعف الأخلاقي والفساد والمحسوبية، وغيرها.
اهتمّت أفلام تسعينيات القرن الـ20 وما بعدها بالسياسة، وبالتحوّلات الدولية، قليلاً. كان التركيز على انفتاح المجتمع، وقضايا أخرى كالحبّ والتسامح والغفران، والمسؤولية الأخلاقية، مع تلميحات إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. هذا يُلاحظ في أفلام يان ياكوب كولسكي، وكشيشتوف كراوزا، وتوماش باﭼينيسكي، وماريوش فيلتشينسكي، مثلاً. مع الألفية الجديدة، كثرت الأفلام المتشبِّهة بهوليوود، وانتشرت قصص الأخيار والأشرار، وحروب العصابات، والمطاردات، مع تناول بسيط وقليل لسينما الإنسان، والنزعة الفردية، والتأمّل الذاتي والوجودي والفلسفي والنفسي والسلوكي، في أفلامٍ فنية.
الجيل الجديد، تحديداً، ركّز أكثر على الجوانب الشخصية والحميمة للحياة البولندية، والرغبة في الحرية والانفتاح، خاصة بين مجايلي أبنائه. من أهم المواضيع التي تُناقش: التوق إلى الحب، والشعور بالوحدة، وإزعاجات الحياة الأسرية. وقصص مراحل المراهقة والنضوج، وموجة الهجرة الهائلة بين الشباب، بحثاً عن مالٍ وانفتاحٍ أكبر، كما في "أنا لا أبكي أبدًا" (2021)، لبيوتر دومالفسكي، مثلاً.
كما يبرز لدى السينمائيين الجدد انتقاد المجتمع والعادات والتقاليد، والشخصية البولندية، صراحةً ومن دون مواربة. إلى ذلك، هناك مهاجمة الدين والتديّن، وعلاقتهما بالمجتمع والفرد، وقبل ذلك سلطة الكنيسة وكُهَّانها، من دون الاهتمام بالسياسة، أو الخوض العقيم فيها. هذا تغيّر، يكاد يكون جذرياً، في الخطاب والمواضيع والطروحات والمعالجات.
بالنسبة إلى الأسلوب والفنيات واللغة الحديثة للتعبير، يتميّز الجيل الجديد بعمقٍ لافت، ورؤية بصرية أقوى جمالياً. القوّة نابعة من مقاربة المواضيع وسردها بتقليدية أقلّ، وجرأة أكبر. كذلك البحث الدائم عن مُقاربات جديدة مغايرة للواقع، تستلهم التجريب في اللغة والشكل والموضوع. من هنا، يُلاحَظ أنّ السينما البولندية الشابّة أكثر صدقية وحيوية وحسية وتنوعاً وتركيزاً على العناصر المرئية البصرية، مُقارنة حتّى بما كانت عليه قبل عقدٍ أو أقل.
منذ نشأتها، تميّزت السينما البولندية بقوّة الأفلام الوثائقية، وبالمستوى الرفيع لصناعتها. في الأعوام الأخيرة، يُلاحَظ أنّ السينما الوثائقية استعادت قوّتها المعهودة، إذْ بدأت تظهر أسماء جديدة لافتة، أمثال كوبا تشيكاي، وزوفيا كوفاليفسكا، وبارتوش كوفالسكي، وأجنيشكا سموجينيسكا. إحدى سمات أفلامهم تكمن في الانسحاب من السياسي والمؤسّسي إلى المحلي والشخصي، والتركيز على قضايا الإنسان، خاصة المجرمين والمدمنين، وعلى العلاقات الأسرية المدمّرة، وآثارها المؤلمة نفسياً وجسدياً.
كما تتناول السينما الوثائقية الآن مواضيع، كانت ممنوعة سابقاً على مستوى السياسة، كعلاقات بولندا مع الاتحاد السوفييتي السابق وأوكرانيا، واليهود. بالإضافة إلى مُساءلة التاريخ واستجوابه، وتحطيم الأصنام التاريخية. وقبل كل شيء، مهاجمة الكنيسة وسلطتها وتغوّلها في المجتمع.
لا شكّ أنّ استيعاب الأجيال الجديدة أجزاء كبيرة من السينما الفنية، وتعاطيها مع السينما العالمية السائدة، ساهم كثيراً في توسيع مداركها وقدراتها الفنية. كما كان للتطوّر وثورة الاتصالات دور في ذلك. هذا لم يكن مُتاحاً لدى أجيال كثيرة سابقة. بينما كانت الأجيال القديمة تخاطب الداخل أساساً، تمتلك الأجيال الجديدة رغبة عارمة في صنع أفلامٍ تخاطب الجماهير في أوروبا والعالم، بمناقشتها مواضيع قضايا الإنسان، والإيمان بالقيمة المتأصّلة للبشر، وقدرتهم على خلق معنى لأنفسهم وحياتهم، من دون الإذعان إلى الإلهي أو الخارق، أو إلى سلطة الكنيسة، بعكس أفلام الماضي.
الآن، أصبح يُنظر إلى التركيز على الاحتياجات الإنسانية المشتركة، وكرامة كلّ فرد وقيمته، وأهمية الحياة اليومية، على أنّه الترياق الوحيد الممكن ضد الاستبداد، بأشكاله كلّها، أكان استبداداً، أو سيطرة اليمين البولندي، أو تغوّل الكاثوليكية مجتمعياً. أمر خطر للغاية، في بلد يُعتبر سياسياً بامتياز، وأحد معاقل الكاثوليكية عالمياً (إنّه بلد يوحنا ـ بولس الثاني، بابا الفاتيكان بين عامي 1978 و2005).
عبر تناوله كابوسي الدين والجنس، كأداتي كبت وقمع، تطرّق توماش فاسيليفسكي إلى هذا في "الولايات المتحدة للحب"، الفائز بجائزة الدبّ الفضّي لأفضل سيناريو، في الدورة الـ66 (11-21 فبراير/شباط 2016) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)". أيضاً عن الدين، ودوره الخطر في المجتمع البولندي، وخاصّة الشباب وعلاقتهم بالتطرّف والعنف، تمحور "عيد القربان"، ليان كوماسا.
يُعتبر "جسد"، لماوغوزاتا شموفسكا ـ الفائز بجائزة الدب الفضّي لأفضل إخراج، مناصفة مع Aferim! للروماني رادو جود، في الدورة الـ65 (5-15 فبراير/شباط 2015) للـ"برليناله" ـ فيلماً نفسياً شبابياً من طراز رفيع. تدور أحداثه في عالم الأسرة، بينما "وجه" ـ الفائزة بفضله بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم، في الدورة الـ68 (15-25 فبراير/شباط 2018) للـ"برليناله" أيضاً ـ يُعدّ بامتياز حكاية ساخرة عن المجتمع والدين، بسرده قصّة عامل بناء شاب، أجرى عملية زرع وجه، بعد تعرّضه لإصابة مروّعة في عمله على تمثالٍ عملاق للمسيح، يُعتبر الأطول في العالم، كما أنّه أطول من تمثال ريو دي جانيرو، ويُقدَّر كرمز ديني وقومي.
لا ينتمي بافل بافليكوفسكي إلى الأجيال المعاصرة، إذْ يسبقها بعقدين اثنين، أمضاهما في لندن. لكنّ صيته لم يذع إلاّ بعد تألّقه، في الآونة الأخيرة، إثر عودته إلى بولندا، مع فوز "إيدا" (2013) بـ"أوسكار" أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، في النسخة الـ87 (22 فبراير/شباط 2015)، وهو أول "أوسكار" لفيلم روائي طويل بولندي. كما أنّ "حرب باردة" (2018)، أول فيلم بولندي يتمّ اختياره في مهرجان "كانّ" السينمائي، منذ عام 1990، إذْ عُرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8-19 مايو/أيار 2018)، وفاز بجائزة أفضل إخراج، فيكون بافليكوفسكي أول مخرج بولندي يفوز بهذه الجائزة في المهرجان نفسه.
العملان شديدا المُعاصرة، رغم أجوائهما الماضوية التاريخية، وينتميان إلى السينما الإنسانية، وعلاقات البشر بعضهم بعضا، وبالدين والحروب، والتأثيرات النفسية لهذا كلّه.
في السياق نفسه، يُلاحَظ أنّه، في الأعوام الأخيرة مُقارنة بالسابق، فازت أفلام وثائقية بولندية بجوائز عدّة في مهرجانات كبرى، كبرلين و"كانّ" وساندانس ولوكارنو و"إدفا" وفينيسيا. كما رُشِّحَ بعضها وفاز آخر بـ"أوسكار" أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، أكان الفيلم طويلاً أو قصيراً أو وثائقياً.