السينما الألمانية في 2023: رؤى جديدة ومواضيع مختلفة وشراكات عدة

19 يناير 2024
شراكة ألمانية في "وداعاً جوليا" لمحمد كردفاني (فيسبوك)
+ الخط -

شكّلت الأفلام الألمانية سنة 2023 تميّزاً ملحوظاً، أوروبياً على الأقلّ، بعد اقترابها من سَحْب الريادة من فرنسا وإيطاليا، ومن دول أخرى أيضاً، تصدّرت المشهد في السنوات الأخيرة. إذْ أُطلِقُ هذا الحكم، ليس لأنّي أقف على كلّ ما جرى إصداره في السنة المذكورة. فمن الناحية العملية، هذا غير معقول، إنْ لم يكن مستحيلاً، لأنّ كثرة الإنتاجات وتنوّعها، وتفاوت مستوياتها، يحول دون تحقيق هذا المسعى. لكنْ، يُمكن القول إنّي وقفت على معظم الإنتاجات التي لفتت النظر في المهرجانات، بعد مشاركات متعدّدة لها، أو حصولها على جوائز، أو الكتابة عنها والإشادة بها نقديّاً. لهذا، أجد أنّ الحكم - الرأي الذي أطلقته معقولاً، من الناحية المعرفية، فخلصتُ إلى أنّ السينما الألمانية بدأت تستعيد بريقها وألقها القديم، والتاريخ يشهد بتميّزها واختلافها وتعدّد مدارسها. هذا ما قلته في كلّ فيلمٍ شاهدته في السنة نفسها.

جاء هذا التميّز بعد سنواتٍ من الكَدّ والجهد، حتّى وصلت إلى ما بلغته الآن، إذْ تغيّرت استراتيجيتها، وأصبحت أكثر انفتاحاً، إنتاجاً وطريقة تدوير الصناعة بشكل متأن وأكثر عقلانية، أو بمعالجتها قضايا عصرية، ومعايشتها إياها والتطرّق إليها، تلك التي يمرّ بها النسيج المجتمعي الألماني، محلّياً وأوروبياً. لهذا، وسّعت عمليات المشاركة الإنتاجية في أفلامٍ كثيرة غير ألمانية، وهذه خاصيّة تمتاز بها الصناديق والمؤسّسات الفرنسية الداعمة، الرائدة في المشاركة الإنتاجية بمعظم الأفلام العالمية.

إنّها إحدى الزوايا الكثيرة التي فعّلتها ألمانيا، إضافة إلى الاعتماد على مخرجين غير ألمان، مزدوجي الجنسية أو ذوي جنسيات أخرى، وهذا من أهمّ المنطلقات التي خلقت هذا التميّز، أي الانفتاح على الآخر، والوثوق بمقدرته الإبداعية وموهبته السينمائية. كأنّ السينما الألمانية تحاول الخروج من الدائرة المحدودة التي كانت فيها إلى فضاء أكثر رحابة، ونجحت في هذا المسعى.

هناك أمثلة كثيرة في السينما الألمانية يمكن ذكرها عن هذه الشراكات، ليستقيم الحكم ويترسّخ المعنى، منها السوداني "وداعاً جوليا" لمحمد كردفاني، والأوكراني "ستبْنا" لمرينا فرودا، والبلجيكي "من عبدول إلى ليلى" لليلى البياتي. هناك أفلامٌ تحمل الجنسية الألمانية بشكل كامل، مع أنّ مواضيعها وأحداثها تدور في دول أخرى، كالوثائقي "سبعة شتاءات في طهران" لشتيفي نيدرزُل، والروائي "شباك فارغة" للإيراني بهروز كرامي زاده، اللذين تدور أحداثهما في إيران، والوثائقي الآخر "بوابة هوليوود" للمصري إبراهيم نشأت، وتدور أحداثه في أفغانستان. كما أنّ هناك شراكات في السينما الألمانية من نوع آخر تماماً، كمساهمة الألماني فيم فندرز في إنتاج "أيام مثالية" وإخراجه، وأحداثه ووقائعه تجري في اليابان.

هذه نماذج قليلة عن دعم تتولاّه ألمانيا، ليس للسينما المحلية والأوروبية فقط، بل للسينما العالمية. كأنّها تريد عَكس القضايا السياسية والاجتماعية، التي تؤمن بها، في تلك الأفلام وقصصها، إذْ تريد لها انتشاراً أكثر لتخدم بشكل ما السينما من جهة، وقضاياها ونظرتها إلى الأشياء، من جهة أخرى، حفاظاً على تماسك مجتمعها، وضمان اندماج أطيافه.

إلى ذلك، لم تخرج أفلام ألمانية سنة 2023 من سياق النسيج المجتمعي الطارئ، أو بعبارة أخرى: ذات السياقات والأنسجة المختلفة، أي محاولة النظام الألماني استيعاب المهاجرين واللاجئين، الجدد والقدماء، لدمجهم، ولردم هوّة الرفض. هذا أدّى إلى صراعات ومشاكل جديدة، فحاولت أفلامٌ الإشارة إليها، أو تناولها بصِيَغ مختلفة، كمواضيع أساسية أو هامشية، مباشرة أو مُضمرة. فأصبحنا نرى هويات عدّة في فيلمٍ واحد، وممثلين ذوي ألوان بشرة مختلفة، وديانات وعرقيات متنوّعة.

هذا تناوله "ولا كلمة" لهانا سلاك، مع قرار البطلة وابنها الذهاب إلى جزيرة صغيرة لتمضية بضع أيام. هناك، التقت امرأة ذات بشرة سمراء، تُسيّر المتجر الوحيد، إضافة إلى إشرافها على العَبّارة التي تنقل الأفراد والسلع والسيارات، وهذه دلالة على أنّ المهاجرين انتشروا واندمجوا في المدن الألمانية، حتّى البعيدة منها عن العاصمة، كحالة تلك الجزيرة. هذا حدث أيضاً في "سماء حمراء" لكريستيان بتزولد، الذي عَكَس صداقة رجل ذي بشرة سوداء مع آخر أبيض. أي إنّه وضع صيغة التقارب بينهما في سياق الفيلم، من دون خلق أي تمايز عرقي.

كما انعكس هذا، بشكل أوضح وأشمل، في "غرفة المعلّم" لإيلكر تْشَتاك، الذي تناول مشكلة العنصرية، وعدم تقبّل الآخر الوافد إلى ألمانيا، خاصة أنّ معظم الشخصيات مُهاجرة ووافدة. حتى في صورة ما وراء الفيلم، المنعكسة بالجنسية الأولى للمخرج، التركية.

توضح عملية تكرار نشر تلك الصور وتوظيفها، بشكل مستمر، في الأفلام، على إعداد المجتمع الألماني، وحثّه على ضرورة الاندماج، لأنّهم أصبحوا جزءاً من تركيبة ألمانيا وثقافتها. فلا يُمكن حدوث تقدّمٍ حضاري، إذا اعتُبِروا مواطنين درجة ثانية، أو جزءاً من الديكور العام، لأنّهم موجودون بشكل أو بآخر، ويجب التعامل معهم "الندّ للندّ"، لضمان أي تقدم مُشرّف.

هذه المعالجات والتوظيفات في أفلامٍ ألمانية، مُنتجة سنة 2023، لم تُقدّم بشكل فجّ، أو تُرَصّ في زوايا العمل لإظهارهم في صورة المتقبّلين للآخر، بل صيغت بحِرفية سينمائية عالية، مع التطرّق إلى المشاكل من دون خجل. أي إنّهم لم يحاولوا مداراتها والتغطية عليها، بل معالجتها بموضوعية إلى حدّ ما. إضافة إلى الحسّ الفني العالي، الذي تبلور في طريقة تقديمها، انطلاقاً من كتابة السيناريو بإتقان، بالاعتماد على قوّة الموضوع وطريقة الطرح، والتأني في بناء الشخصيات وتطويرها، وفقاً لسياقاتها الفنية، والتقليل منها إلى حدّ كبير، لضمان السيطرة على مسالك الفيلم، وعدم التشعّب في قضايا ثانوية وتبريرات وإصدار أحكام. أوجدوا مساحات واسعة للتأمّل والنقاش والتأويل، وهذا يدلّ على فهمهم الجيّد فنّية السينما وتميّزها، وعدم تحمّلها ثرثرة وحوارات طويلة.

هذا مُعطى ولّد تلك اللغة السينمائية السلسة، والانسياب الواضح للأفكار والرؤى، فهم لم يذهبوا إلى المجاميع البشرية الكبرى، والقصص ذات الميزانيات المرتفعة، والنجوم الكبار الذين يهيمنون عادة على شاشة العرض. إنّه توجّه مدروس بعناية فائقة، يضمن تحكّماً واضحاً في التفاصيل الصغيرة التي تبني الفيلم، وتُقدّمه في أحسن صورة.

هذه المعطيات وغيرها سمة أساسية وجوهرية حاضرةٌ في السينما الألمانية، وأعتقد أنّها ستحافظ عليها في السنوات المقبلة، لأنّ الفرد والمجتمع الألمانيّين تجاوزا مشاكلهما الروتينية، التي تعكسها البطالة والسكن والنقل والحرية، لأنّها لم تعد موجودة تقريباً، فذهبت (السينما الألمانية) إلى المعضلات العصرية، واقتنصت منها مواضيع تثير الجمهور المحلي والعالم، في قالب فني مدروس ومشبع بالجماليات، لتكون النتيجة واضحة في إنتاجاتها سنة 2023.

المساهمون