كعادته، يختار المخرج الروسي المخضرم أندريه كونتشالوفسكي (1937)، في رائعته الجديدة "الرفاق الأعزاء" (2020)، قصّة واقعية، ويُضفي عليها عناصر درامية مُتخيّلة، تُبقيه متيقّظاً للمواءمة الدقيقة بين الجماليّ المتخيّل والواقعيّ. يستخدم هذا الأسلوب حتّى مع الشخصيات التاريخية، عند تناولها سينمائياً، كما في فيلمه السابق "خطيئة" (2019)، عن الفنان مايكل أنجلو.
في "الرفاق الأعزاء" ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، والمُشارك في الدورة الـ42 (2 ـ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ يضفي على مجزرة "نوفوتشركاسك"، المرتكَبة ضد عمّال يُنفّذون إضراباً في عهد نيكيتا خروتشوف، أبعاداً جمالية وقصصاً متخيّلة لا تخلُّ بتراجيدية الحدث، ولا تُحيد عن مجاراته، ناقلاً إياها على الشاشة بالأسود والأبيض، ومُحقّقاً بعض ذلك التوازن. القتامة تُحيل إلى المذبحة المريعة، والاشتغال الجماليّ يؤكّد كلاسيكية روسية، حرفتُها مُتقَنة.
المجزرة مروّعة، نفّذها الجيش وأجهزة الأمن عام 1962، بأمر من قادة الحزب الشيوعي السوفييتي، ضد عمّال شركة إنتاج القاطرات الكهربائية، في منطقة "دون" القوقازية، المحتجّين على قلّة الأجور، وارتفاع أسعار البضائع، الشحيحة أصلاً. الدراما المتخيّلة تتمحور حول شخصية ليودميلا (جوليا فيسوتسكايا)، المسؤولة المتشدّدة في قيادة اللجنة الحزبية للمنطقة. على سلوكها وقناعاتها، يقرأ كونتشالوفسكي، وشريكته في كتابة السيناريو إلينا كيسليفا، مرحلة خطرة من تاريخ بلدهما، تزعزعت خلالها ثقة الناس وإيمانهم بالستالينية، وظهرت معها تيارات حزبية تطالب بالتجديد، وبمنح الناس حقوقهم.
ظلّت ليودميلا ستالينية. فيها، تجد ضماناً للمسارات السياسية لبلدها. لم تعلن ذلك جهاراً، فما تحصل عليه من امتيازات، في زمن الشحّ الاقتصادي، يُقنعها بالصمت، وبمجاراة تيار سياسي داخلي. تفاعلات تلك المرحلة المتشنِّجة تختصرها مكوّنات عائلتها: ابنتها سفيتا (جوليا بوروفا)، عاملة المصنع، صدّقت وعود الحزب بحرية التعبير والتظاهر؛ ووالدها (سيرغي إيرليش) شهد في حياته صراعات حزبية وحروباً داخلية، لا يجد نهاية لها إلا بالموت، بموته المنتظر. ثلاثة أجيال، تفجّرت تناقضاتها في اللحظة التي أطلق قنّاص الـ"كي. جي. بي." رصاصات بندقيته على صدور المتظاهرين، فزعزعت المجزرة دواخل أبنائها، وكشفت ميولاً أخرسها الخوف.
من بعيد، ظهر شبح ستالين مُراقِباً ومُختبراً قوّة ما غرسه من عنفٍ وبطشٍ في نفوس حزبيين وقادة جيش عقائدي، لا يعرفون إلا الولاء له. رؤيتها، صدفةً، لما جرى، جعل ليودميلا شاهدةً على جريمة. غياب ابنتها، أياماً عدّة أعقبت المجزرة، سرّب خوفاً فيها من احتمال فقدانها.
على خطى كُتّاب النصوص السينمائية الكبيرة، الذاهبة إلى أعماق الكائن المذعور، يتابع أندريه كونتشالوفسكي التحوّلات الحاصلة في الشخصية المركزية، بقوّة ردّ الفعل وبالمصادفة أحياناً، لا بالقناعات. بحثُها عن ابنتها، برفقة رجل المخابرات فيكتور (أندريه غوسيف)، المتعاطف معها، يفتح عينيها على مشهد سياسي مرعب، طالما نادت بفرضه على الجميع. اصطدمت بجدار صمت متين، تلخّصه عبارات باردة، فُرض على الجميع تردادها: "لم يحدث أيّ شيء. لا نعرف أحداً بهذا الاسم".
يقودها البحث إلى حقائق صادمة، تزعزع قناعاتها بستالينية خافت عليها من الضمور، لكنّها وجدتها أكثر رسوخاً ممّا تتصوّر. نصّ "الرفاق الأعزاء" يبحث في عمقه عن الستالينية، سلوكاً وفكراً، وفي مساره الدرامي عن حال الأفراد المنتفعين من السلطات، لحظة تصادم مصالحهم الخاصة معها. كَفرت الأم بقناعاتها عندما عرفت أنّ العمّال القتلى سُجّلوا في المشافي بأسماء أخرى، وأنّهم دُفنوا في مقابر سرّية، وصلت إليها حين أرادت التأكّد من موت ابنتها أو من عدمه.
الاشتغال السينمائي كلّه تقريباً مُكرّسٌ لإكمال بناء شخصية ليودميلا درامياً (أداء جوليا فيسوتسكايا مُذهلٌ في عمقه وتجسيده تحوّلاتها الداخلية). التوليف (سيرغي تراسكين) السريع، المتناسب في البداية مع الحدث المتصاعد والمتوتر، يأخذ سريعاً مساراً بطيئاً، يتوافق مع مَشاهد طويلة، تتخلّلها حوارات تشي معانيها بانسحاق بشري، وعجز وخوف من مواجهة الحقيقة. التصوير (أندريه نايدينوف)، المنتمي إلى المدرسة الروسية الكلاسيكية، ثابتٌ في براعته بالتقاط المشهدين: العام والفرديّ الخاص. تعابير الوجوه مُلتَقَطة بكاميرا بارعة، تتفهّم روح النص التحليلي. الاقتراب منها يُسرّب قلقاً للمُشاهد، يقارب قلق الأم على ابنة، طالما اختلفت معها، وتعارضت قناعاتها مع صدق إيمان عاملة شابّة بالتغيير المرتجى.
لم يُتح العنف السلطوي فرصة لخلافٍ سويّ. مُنِح للخوف سلطة تسيير الناس لأمدٍ طويل، مُعاندته في أقاليم القوقاز، الموصوفة غالباً بـ"المعارضة" للبلشفية، لن يمرّ من دون عقاب. في "الرفاق الأعزاء"، يُسمَع صداه في أنين جرحى المجزرة وشهودها.
عودة الابنة سالمةً، وجلوس والدتها معها على حافة سطح المنزل، ليس مشهداً ختامياً مُعدّاً لتقبّل إشارة ساذجة عن مصالحة جارية بين أجيال وقناعات. ما تزعزع وانكسر داخل الأم، لن يكفي لترميمه، حتّى نجاة ابنتها من موتٍ ظنّته أكيداً.