استمع إلى الملخص
- مع اشتداد العنف، انتقل مغنو الراب إلى المنفى، حيث استمروا في تسجيل الأغاني وإقامة حفلات تعبر عن روح الثورة، مطالبين جمهورهم بالتأمل في معاناة الشعب السوري، ليصبح الراب خطاباً موازياً للواقع السوري.
- بعد سقوط النظام، استمر الراب في دوره السياسي، مع التركيز على المصالحة وترميم الهوية، حيث برزت أصوات مثل إسماعيل تمر ومودي العربي، معبرة عن اللحظة رغم شح الإمكانيات، ليظل شاهداً على مرحلة مفصلية في تاريخ سوريا.
لسنوات طويلة، اختمر مشهد الراب السوري في الظل، مكبّلاً بإمكانات شحيحة، وأفق يكاد يكون معدوماً. مع ذلك، نجح رواده في تحويل هذا الفن إلى مساحة للتجريب والابتكار، بلغت ذروتها مع الانتفاضات العربية.
حين انطلقت الثورة، وجد الراب السوري نفسه في مواجهة مباشرة مع السلطة القمعية وروايتها الأحادية. وبينما كان الإعلام الرسمي يردّد بصوت أجوف أن "كل شيء بخير"، كان مغنو الراب السوريون يصرخون بحقيقة القمع، والسجون السرية، والطوابير الطويلة التي باتت رمزاً للبؤس السوري. كان الراب "القوة التخريبية" وشريان حياة لمن رفضوا حمل السلاح، ولغةً تسرد قصص الشباب المحاصر في دوامة القمع والاغتراب والغضب.
وتحوّلت غرف المعيشة الباردة إلى استوديوهات تسجيل سرية، حيث تُصنع الموسيقى على ضوء مصابيح الليد الخافت، وتعمل الأجهزة الإلكترونية ببطاريات مستنزفة، بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية التي كانت تلاحق الفنانين حتى أسطح المباني، وفقاً إلى ما تشير مرويات عدة.
مع اشتداد العنف، وجد مغنو الراب السوري أنفسهم على طريق المنفى، حالهم حال ملايين السوريين. من بيروت إلى إسطنبول وصولاً إلى برلين، استمروا في تسجيل الأغاني وإقامة التجمعات التي غالباً ما كانت تأخذ شكل تظاهرات مصغرة، وفيّة لروح الثورة وحلم العودة. في كتاب Syria Speaks: Art and Culture from the Frontline، تُصوّر حفلات الراب في الخارج باعتبارها مشهداً مستمراً للانتفاضة. بعض الفنانين، كمحمد أبو حجر من فرقة "مزاج راب"، كانوا يطالبون جمهورهم بالإنصات بدل الرقص، ليصبح كل عرض مساحة للتأمل والتذكّر.
لكنّ قصّة الراب السوري لم تبدأ مع الثورة. لعقود طويلة، عاش هذا الفن في هامشٍ ضيّق، تطارده قبضة أمنية لا ترحم. في ثمانينيات القرن الماضي، وجد منفذاً له عبر أشرطة الكاسيت المهرّبة أو البثّ التلفزيوني العالمي. حينذاك، كانت الموسيقى "المدعومة" رسمياً هي تلك التي تعيد إنتاج الأنماط العربية التقليدية، يقابلها أخرى "ملتزمة سياسياً"، تميل لإيقاعات الجاز والبلوز والفولك.
اكتفت بعض المدن الكبرى، كدمشق وحلب، بتجارب متفرقة ومحدودة التأثير، معظمها تلمّس طريقه بخجل باللغة الإنكليزية، متأثراً بمشهد الهيب هوب العالمي في برونكس، على شكل تجمعات صغيرة وتسجيلات شبه سرية، نظراً إلى غياب المنصات، وانتشار التشكيك المجتمعي حول هذا الفن "الدخيل".
لم يتبلور الراب كخطاب مواز إلا مع بداية التسعينيات، حين سمح الانفتاح النسبي للمدن السورية بازدهار أشكالٍ جديدة من التبادل الثقافي. تحوّل الراب من ظاهرة "غريبة" إلى فن تحت أرضي (Underground)، يستمد شرعيته من أوساط شبابية، أرادت وصف الواقع "الخام" للبلد، من دون تزيين.
تزامنت هذه التحولات مع نمو مشهد الراب في لبنان وفلسطين ومصر والأردن، ما ولّد روابط عابرة للحدود، وشبكات إقليمية بين فنانين تقاسموا لغة الاحتجاج، وتشاركوا تاريخاً لا يد لهم فيه من العنصرية المتبادلة. ثم جاءت الألفية الجديدة، ومعها الإنترنت، فتيسّر للبعض أن يبث إنتاجه عبر "يوتيوب" و"ساوند كلاود"، ولو بمعدات بدائية، إلى أن تطور الإنتاج إلى الشكل الذي نعرفه اليوم.
بعد سقوط النظام، استمرّت أغاني الراب في أداء دورها السياسي، لكنها انحازت هذه المرة إلى مشروع وطني جديد، يقوم على المصالحة/المصارحة، ومحاولة ترميم الهوية الممزّقة. ومن بين أبرز الأصوات التي صدحت في ساحات الحرية، برز إسماعيل تمر ومودي العربي، اللذان أنتجا أغاني احتفالية تعبّر عن اللحظة، رغم شحّ الإمكانيات الواضح.
حوّل مودي العربي حكاية اللاجئ المتهم بـ"الهروب"، والذي يصارع ما أسماه "عار المنفى"، إلى ترنيمة نصر في أغنيته "شاهين" عقب سقوط الأسد، والتي أنتجها بالكامل عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، وبناها على أحد أشهر هتافات الثورة السورية: "ما نركع إلا لله".
أما إسماعيل تمر (MC Twistar)، الذي لطالما سلط لسانه على المجتمع الدولي والإقليمي الساكت عن المجازر، فأطلق أغنية "ساروتنا" التي جمعت صوته مع ترنيمة الشهيد عبد الباسط الساروت الشهيرة "جنة جنة"، ليعلن نهاية الحداد الطويل: "بدّلوا الحزن… سمانا ما عاد فيها غمّة".
لكن خلافاً للنبرة التفاؤلية التي ميزت أغاني ما بعد السقوط، كان الراب خلال الـ14 عاماً الماضية يصدح بنبرة انكسار مريرة، وشاهداً على تراكم الجرائم والحزن وضياع الشباب. ظهرت فرق تبلورت هوياتها بمزيج من الحماس والغضب، من ضمنها "لتلتة". من بين فناني المرحلة، برز بو كلثوم، الذي عُرف بأسلوبه المميز في مزج الموسيقى المحلية مع روح الراب الحديثة. حققت أغانيه صدى كبيراً لدى السوريين في الداخل والخارج على السواء. وحين انتقل إلى عمّان، أخذت أعماله منحى أكثر قتامة، تجلّى ذلك في ألبومه "إنديرال" الصادر عام 2015، فتخلّى بو كلثوم عن الفكاهة الساخرة، محوِّلاً قوافيه إلى صرخة غربة ونزوح، وهو يشرّح الألم النفسي لأولئك الذين هُجّروا قسرياً، وتفتتت هوياتهم في المنافي. أما هاني السواح المعروف بالدرويش، فاختار المنفى في بيروت، بعد أن طارده شبح الاعتقال في حمص، مسقط رأسه. وتكشِف تجربته في ألبوم "أرض السمك" (2016) أن المنفى لا يبدّد الحلم، بل يضعه أمام اختبارات أقسى. في حين تتشابك اللغتان العربية والإنكليزية في أعمال السوري الأميركي عمر آفندم، ويبرز الوجه المعقّد للهوية السورية المتعددة. استمر ذكر آفندم في التذكير بأن "حكم الأسد غير شرعي"، وأن السوريين ليسوا أرقاماً في حرب دولية باردة.
اليوم، يقف الراب السوري شاهداً على مرحلة مفصلية في تاريخ سورية، وجسراً نحو مستقبل لا يزال غامضاً. فبعدما نشأ هذا الفنّ في أروقة القمع والنزوح، انتقل ليصير قوة سياسية وثقافية لا تهادن، وأملاً بأن التضحيات لن تذهب سدى، وأن المستقبل، رغم غموضه، قد يحمل نغماً جديداً يعيد تشكيل الحلم السوري.