الديكتاتور وتماثيله... كل المدن واحدة لحظة الخراب

06 ابريل 2022
السجود لتمثال الزعيم في كوريا الشمالية (كيم ون جين/Getty)
+ الخط -

عند قراءتنا اليوم لأخبار الحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا، نحتاج وقتاً لكي نستوعب أننا نعيش زمن الحرب، ولا نقرأ عنه في كتب التاريخ. الأمر كذلك في ما يخص المجازر المرتكبة بحق شعوب الانتفاضات العربية. فعندما نسمع عن أساليب القمع المُستخدمة في مدن الثورات، نظن أننا نقرأ عن العصور الوسطى. 
إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فها هي الحرب تعود إلى الجبهات، وتشتعل من جديد، جالبة رائحة الموت التي لم تراوح المكان منذ زمن، وأيضًا لغوَ التنبؤات المبنية على ماراثون لعبة شد الحبل بين الأطراف المتنازعة، مُشرعنة بذلك لغة السلاح والقتل، غاضّة الطرف عن كل المعاهدات التي أُدرِجت بنودها، لتحدّ من ويلات المذابح الوحشية. كأنّ التاريخ ذو مسار دائري، يعيد إلينا منظومات مقولبة تقوم بالأفعال ذاتها، بمنأى عن الجغرافيا والتوقيت.
إنّ أول هدف لكل مستعمر وطاغية، يتمثل في طمس هوية المكان وتفتيت تراثه الثقافي. ففي الأيام الأخيرة، كنا نشاهد السفن الحربية الروسية، تحاصر مدينة أوديسا ذات المرفأ الرئيسي على البحر الأسود.

لهذه المدينة أهمية تاريخية وثقافية، ففيها المسارح والمقاهي والعديد من المتاحف، أهمها متحف أوديسا الأثري الذي أسس عام 1825؛ إذ يحتضن ما يقارب 170 ألف قطعة أثرية تنتمي إلى عصور مختلفة، ومن بينها جناح كامل للآثار المصرية. هذا يعيدنا إلى سؤال مفزع: ما هو مصير الآثار في حال تعرضت المدينة للقصف والدمار؟

يحتضن متحف أوديسا ما يقارب 170 ألف قطعة أثرية (نينا لياشونوك/Getty)

دُمرت بغداد إبان الاحتلال الأميركي، ونُهب متحفها الذي يحوي مخزوناً مهماً للإرث البشري. ولا يزال العراق، منذ عام 2003 حتى اليوم، يحاول استرجاع كل ما نُهب.
وإذا ما عدنا في الزمن إلى عامي 1991 و1992؛ فنقرأ عن تعرض مدينة دوبروفينيك الكرواتية، التي تطل على البحر الأدرياتيكي، لحصار من قبل الجيش الشعبي اليوغوسلافي. تلا ذلك هجوم عنيف تضرّر على أثره 542 مَعلماً من المعالم المعمارية في وسط المدينة التاريخية.

نهب متحف بغداد إبان الغزو الأميركي (أحمد الرباعي/فرانس برس)

لم تكن للمدينة أي أهمية عسكرية استراتيجية، وإنما كان الهدف من الهجوم عليها هو تدمير رموز الهوية الوطنية الكرواتية. فالمدن تتشابه لحظة الخراب، كما يتشابه الغزاة والطغاة في تجريد الشعوب من جعبتها الهوياتية، كخطوة أساسية في صيرورة تحويل الإنسان إلى كتلة خراب مفرغ من أي ذاكرة تصوغ وجوده. فما أشبه دمار قلب مدينة دريسدن التاريخي في الحرب العالمية الثانية، بركام مدينة حلب السورية اليوم. 
لا يُعنى الديكتاتور بموضوع تدمير الإرث الثقافي، فكل ما يسبق عهده، سواء بيوم أو بألف عام، هو غير مهم، وفي حال دُمّر؛ فذلك ليس بالأمر الذي يستحق عناء التفكير. أما الأعمال الفنية التي تُنتج في عهده، فيجب أن تخضع إلى رقابته الخاصة، حيث تُتوّج وتُمتدح الأعمال المباشرة وواضحة المعنى، وتغيّب تلك التي تحمل مضامين عميقة. فالديكتاتور لا يحتمل أن يمرّ عليه عمل لا يفهم المغزى منه، كما لا يستسيغ، هذا الطاغية، أن تُنسب الإنجازات إلى سواه، في أي حقل من حقول العمارة والفن وغيرهما، بما في ذلك المعالم الأثريّة التي لها من الأهميّة ما لا يمكّنه من إزالتها من الوجود، فيحرص حينئذ على وضع بصماته، سواء في الحفاظ على المَعلم ذاته، أو حتى في البهرجة والتجميل. وطبعاً على الجميع أن يعترف بفضله وإنجازاته.
في هذا السياق، تجري اليوم مهرجانات وفعاليّات برّاقة في سبيل لفت الأنظار إلى اهتمام نظام السيسي بإعادة إحياء تاريخ مصر. إلا أن المُطّلع، يرى أنّ كل ما يجري في الحقيقة هو على حساب عمليات الهدم والتخريب لمبانٍ ورموز عششت طويلاً في ذاكرة الشعب المصري، كتجريف أحياء ومبانٍ وأضرحة تاريخية في القاهرة والإسكندريّة، ومسح معالم ميدان التحرير، تلك التي رأيناها في ثورة 25 يناير 2011. كل ذلك يحدث بصمت ومن دون إحداث أي جلبة، بينما تُوجّه الأنظار لموكب نقل المومياوات العظيم والمبهرج بالإضاءة والموسيقى الأوركسترالية، والمُخرج ليثبّت في مخيلة العالم صورة ناصعة عن مصر في عهد السيسي. 

من موكب نقل المومياوات (الأناضول)

كل ما يُعنى به الديكتاتور، عبر التاريخ، هو إغراق المدن والساحات الرئيسية والمداخل والطرقات بتماثيله العملاقة، وأن يغلّب نفسه على الأعمال الفنية المنتجة، ويدشن مشاريع خالية من أي غرض جمالي، ليعزز بذلك ملكيته لهذه المساحات على مرأى من أعين ساكنيها، ويبعث فيهم الخشية منه أينما التفتوا. التمثال ذو رمزية مقدّسة لكل من الديكتاتور والشعب المحكوم، ومجرد النظر إليه نظرة غير محببة؛ فتلك جريمة تُعاقب عليها الأنظمة الشموليّة، إلا أنّ الثورات الشعبية استطاعت انتزاع هيبة الديكتاتور وكسر قدسيته بتمريغ أنوف تماثيله بالتراب.. وسقوط كل قطعة منها، هو سقوط مدوٍّ لهالة الديكتاتور.
ماذا لو بقيت هذه التماثيل راسخة؟ هل سيُحتفى بها مستقبلاً في قاعات وأروقة المتاحف كقيمة فنية؟ كما نحتفي نحن بتماثيل وبورتريهات الأباطرة والملوك التي حملتها إلينا السويات الأثريّة، متناسين أن أصحاب هذه التماثيل لطالما جثموا على صدور الشعوب، وكانوا مبعث الرعب وسبب المجازر، ودفن المدن في مقابر التاريخ، كقرابين لتبقى تماثيلهم هذه شاخصة أمامنا. 
خلّد الإمبراطور تراجان انتصاراته على مملكة داتشيا، في عمود ضخم ذي إفريز حلزوني. يحمل العمود مشاهد قتل وتجزير تختتم بمظاهر الاحتفاء والابتهال لشخصه المنتصر، وهو تقليد سائد منذ العصور القديمة، كان قد افتتحه الملك إياناتوم سنة 2500 (ق.م) في "مسلة النسور"، التي خلّد فيها انتصاره على مملكة أوما. إلا أن الأشهر بينها، هي "مسلة النصر" للملك نارام سين حفيد صارغون الأكادي. 
كم من حرب على البشر أن يخوضوا، ليعوا معنى العيش الهانئ في أرض لا ترتج طبقاتها عند هدير كل طائرة، أو عند فتح فوهة كل مدفع؟ وكم عاماً تحتاج هذه الأرض لتتطهر من لعنات كل روح قتلت من غير ذنب، بينما المجرمون يشيخون ويموتون دون عقاب أو محاسبة؟ وتبقى تماثيلهم.

المساهمون