الدعاية الإسرائيلية في أوروبا... الدنمارك نموذجاً

19 يونيو 2024
مظاهرة ضد الحرب على غزة في كوبنهاغن، 18 مايو 2024 (محمد أحمد/ الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الإعلام الأوروبي يواجه انتقادات لتبنيه الدعاية الإسرائيلية في تغطية حرب غزة، مع استخدام إسرائيل للدعاية والتمويل لتأثير على الرأي العام منذ 2010.
- تشمل أساليب تحسين صورة إسرائيل دعوة شخصيات بارزة لزيارات مدفوعة الأجر لعرض "التسامح" الإسرائيلي، مع رفض بعض الشخصيات مثل خاطرة برواني وغيتي أميري لهذه الدعوات.
- تزايد التحديات للبروباغندا الإسرائيلية في أوروبا مع تشكيك وسائل الإعلام والجمهور في الرواية الإسرائيلية، مما يشير إلى تراجع مصداقية الدعاية وتغير الرأي العام نحو القضية الفلسطينية.

طرحت أسئلة عدة حول مهنية تغطية الإعلام الأوروبي لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خاصة مع تبنيه وترويجه في مطلع العدوان الدعاية الإسرائيلية من دون مساءلة. الدنمارك ذات المرتبة المتقدمة في حرية الصحافة كمثال، تكشف كيف أن تدوير الدعاية الإسرائيلية لم يكن بعيداً عن التمويل والارتزاق.

ليس الأمر بالجديد، بل أسلوب منهجي تأسّس في 16 يناير/ كانون الثاني 2010، حين عقد وزير الخارجية الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان مؤتمراً لسفراء الاحتلال في الدنمارك والنرويج وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا، لتحديد "المبادئ التوجيهية الأساسية" لحملات علاقات عامة لتحسين سمعة دولة الاحتلال، بحسب ما ذكرته صحيفة هآرتس آنذاك. ولعبت سفارة تل أبيب وسفيرها في كوبنهاغن آنذاك آرثر أفنون دوراً في البحث عن أسماء ألف شخصية دنماركية، لتجنيدهم من أجل تجميل صورة الاحتلال وإعادة تسويق الدعاية الإسرائيلية في عدوانها على الفلسطينيين.

ووفقاً لصحيفة بيرلينغسكا الدنماركية، فإنّ التطبيق العملي للمبادئ التوجيهية لاختراق الصحافيين وقادة الرأي في الدول المستهدفة انطلق في 2011، إذ إن "تحسين صورة إسرائيل ضاعف ميزانية العلاقات العامة لسفارتها في كوبنهاغن". منذ ذلك الحين، تكثّف تركيز سفارة الاحتلال في الدنمارك على استخدام ما يصل إلى ألف شخصية دنماركية من صحافيين ومثقفين وأكاديميين بهدف "الرعاية الاستباقية لإسرائيل". كذلك، صارت سفارة تل أبيب في كوبنهاغن، كما في عواصم أخرى، أكثر تدخلاً في النقاش العام المتعلق بسياسات الاحتلال في الأراضي المحتلة.

ومن المؤكد، بحسب شواهد كثيرة، أن برنامج الاستهداف لم يتراجع، بل توسع في صرف الأموال، وعلى شكل برنامج دعوة لصناع الرأي والصحافيين، بمن فيهم ذوو الخلفيات المهاجرة والمسلمة، من أجل زيارة دولة الاحتلال، وعلى حساب وزارة الخارجية في تل أبيب.

وعام 2019، دعت سفارة الاحتلال الناشطة النسوية المعروفة في الدنمارك خاطرة برواني (40 عاماً)، المولودة في كابول في أفغانستان، للقيام برحلة شاملة مع شخصيات أخرى إلى تل أبيب، بهدف "المشاركة في برنامج رائد فريد من نوعه حول السياسة العامة التقدمية والابتكار الاجتماعي في إسرائيل". رفضت برواني الدعوة، خاصةً أن الرحلة تتضمن جولة مبرمجة إلى الكنيست والالتقاء بسياسيين وإحاطتهم بالقضايا الأمنية وتحديات دولة الاحتلال مع ما يسمى "الإرهاب الفلسطيني" فضلاً عن زيارة للبلدة القديمة في القدس، لإظهار "التسامح" الذي يبديه الاحتلال مع أتباع الأديان المختلفة.

عام 2021، كشفت ناشطة نسوية أخرى من أصول أفغانية هي غيتي أميري، المولودة في كابول عام 1989، عن رفضها دعوة من سفارة الاحتلال في كوبنهاغن لزيارة تل أبيب خلال العام 2019. اعتبرت أميري أنّ الرحلة تهدف لتبييض صفحة الاحتلال، وأضافت في مقال نشرته صحيفة إكسترا بلاديت المحلية أنّ "هدف الدعوة هو أن يرى المدعوون بعيونهم كيف تدمج إسرائيل الأقليات وتمنحهم الفرصة للتعليم وتقدم للجميع الرعاية الصحية".

وتنشط سفارات الاحتلال في الدول الأوروبية بصورة إضافية وفاضحة بالتزامن مع كل حرب أو عدوان على قطاع غزة، بالإضافة إلى القضايا التي يعود فيها السجال حول الاحتلال وهمجيته، كما خلال أحداث حي الشيخ جراح في القدس عام 2021.

مع تداعي الدعاية الإسرائيلية للعدوان المستمر على غزة، هرعت سفارة الاحتلال في كوبنهاغن إلى تعزيز العمل وفق الآليات نفسها، إذ كشف العديد من الصحافيين والمؤثرين عن تلقيهم دعوات للسفر إلى تل أبيب. من بين هؤلاء الناشط الدنماركي من أصل فلسطيني طارق زياد حسين، وهو مدير الفرع الشبابي لمجلس اللاجئين الدنماركي. كشف حسين في مارس/ آذار الماضي عن تلقيه مكالمة من شخص قدم نفسه على أنه من وكالة علاقات عامة، عارضاً عليه رحلة مدفوعة إلى دولة الاحتلال "لرؤية كل الأشياء الرائعة التي تقدمها إسرائيل، على أن يتم دفع تكاليف الرحلة بأكملها، بما في ذلك رحلات الطيران والطعام والإقامة".

هذه الأساليب الملتوية في شراء الذمم، أو محاولة تجنيد أشخاص لترويج روايات كاذبة ومضللة، تأتي في الوقت الذي يمنع فيه الاحتلال صحافيي العالم من دخول قطاع غزة، بل يستهدف الصحافيين الفلسطينيين، من خلال القتل والاعتقال، وإغلاق مكتب قناة الجزيرة والتضييق على المراسلين، بل السماح بالاعتداء عليهم بحماية الجنود للمستوطنين الفاشيين داخل أزقة القدس القديمة المحتلة.

وتتوقع دولة الاحتلال من الرحلات المجانية للصحافيين وصناع الرأي العام أن تحوّل هؤلاء بعد العودة إلى بلادهم إلى أبواق دعائية إسرائيلية، تنخرط في حملات التجهيل والخداع، التي فضحتها جرائم الحرب طوال تسعة أشهر في غزة. ولا يختلف نشاط جماعات الضغط الصهيونية على مستوى أوروبا، من حيث الأسلوب والأدوات، عن الدنمارك، ويكشف الغرق في وحل عنصرية القائمين على بعض المؤسسات الإعلامية من ناحية، وضرب مصداقية ومهنية الصحافة من ناحية أخرى.

ترفض بعض تلك الوسائل الإعلامية الاعتماد على صحافيين فلسطينيين محليين، وتسارع إلى نسب الخبر إلى جهات مجهولة ومسبوقة بجملة لازمة: "بحسب الادعاءات". بينما تنقل الأخبار عن الاحتلال وحكومته من دون تشكيك أو تدقيق، إلى حد يبدو معه الخبر كأنّه من صياغة المتحدث باسم جيش الاحتلال، بما يضرب معنى مهنة الصحافة ودورها التوعوي. اختلفت الأمور حالياً عما كانت عليه في بدايات الحرب على غزة، فقد فضحت الدعاية الإسرائيلية في الدنمارك وأوروبا عموماً، على الرغم من المجهود الذي تبذله السفارات واللوبيات الداعمة لإسرائيل.

تراجعت بعض وسائل الإعلام الأوروبية عن الترويج لما تنشره شخصيات مدعومة من سفارات الاحتلال. كما فتحت التحركات الاحتجاجية في شوارع مدن أوروبية الباب أمام التشكيك بالرواية الصهيونية. أثبت ذلك أن الاحتلال، رغم الأموال والجهود المبذولة، يواجه مصاعب في تطبيق "المبادئ التوجيهية الأساسية" لتحسين سمعة دولته.

ولعله من اللافت أن عام 2010، الذي شهد إطلاق تلك المبادئ، شهد أيضاً اعتراف رئيس تحرير أكبر صحف البلاد "بوليتيكن"، هربرت بونديك، أنه كان مجنداً من قبل الاستخبارات الإسرائيلية لتعزيز نفوذ تل أبيب، وأنه استخدم الصحيفة كأداة لتعزيز مصالح الاحتلال. خلال العدوان الحالي، حاولت "بوليتيكن" أن تظهر نفسها بشكل متوازن نوعاً ما، خصوصاً مع وجود كادر يهودي في هيئة التحرير ناقد لشخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ينطبق ذلك على بضعة صحف يمينية، أبرزها "فيكند أفيزن". بينما ظهرت صحيفة إنفورماسيون بصورة أكثر توازناً في التغطية، وإن وقعت أحياناً في مطبات خلط الأخبار بآراء مسبقة عند بعض المراسلين، إلى جانب الصحيفة اليسارية آربايدن المؤيدة للحقوق الفلسطينية بشكل واضح.

مثلما كشفت الحرب على غزة ازدواجية معايير الطبقة السياسية الغربية، فإنها كشفت للجمهور عن مشكلة جدية تعاني منها الصحافة ووسائل الإعلام الأوروبية، خصوصاً في ألمانيا وإلى حد ما في فرنسا، على مستوى الاستقلالية والنزاهة في تغطية ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بطريقة مشابهة لما جرى قبل عقود حين دعمت منظومة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا سابقاً، ثمّ تحوّلت للاحتفاء بنيلسون مانديلا كبطل.

كانت كل من "هآرتس" و"بيرلنغسكا" قد كشفتا عام 2011 أنّ الحملة الصهيونية التي أُطلقت في 2010 كانت تستهدف صحافيين وسياسيين وناشطين ومؤثرين في المجتمعات الأوروبية وشخصيات أكاديمية وطلابية، وأيضاً أعضاء الجالية اليهودية والناشطين في المنظمات المسيحية المتشددة. ومن بين القضايا التي جرى التركيز عليها، إلى جانب شيطنة الفلسطيني ونزع صورته الإنسانية، إطلاع هؤلاء المجندين في خدمة الرواية الصهيونية بصورة دائمة من قبل سفارات تل أبيب على الرسائل السياسية للاحتلال، سواء تعلق الأمر بالحروب أو بالحديث عن "عملية سلام" والتطورات في الشرق الأوسط، وذلك بالطبع إلى جانب رسم صورة ناصعة لدولة الاحتلال وبإشارات إيجابية دوماً "باعتبار إسرائيل مركزاً تكنولوجياً وسياحياً عالمياً".

وأقرّ المستشار الإعلامي لسفارة تل أبيب دان أوريان، في ديسمبر/ كانون الأول 2010، بحسب صحيفة بيرلنغسكا، باتباع أساليب الارتزاق لتجنيد صحافيين وناشطين ممن أطلق عليهم وصف "حلفاء استباقيين" (أي مروجي الدعاية الإسرائيلية) مقابل "مكافآت" بقوله: "أنا متأكد من أنه إذا قام شخص ما بشيء مهم فسيكافأ".

وعلى مدار 13 سنة واصلت وزارة الخارجية الإسرائيلية تخصيص المزيد من الأموال لتوظيف جماعات ضغط محترفة وشركات علاقات عامة في العواصم الكبرى الأوروبية. ولعلّ أكثر ما يزعج الاحتلال شعوره بتراجع مصداقية سرديته لدى الجمهور، وخاصة بين الأجيال الشابة، التي استهدفتها في خطة 2010 باعتبارها قيادات المستقبل. بالمحصلة، يبدو أن العام 2024 ليس لأفضل للبروباغندا الصهيونية التي باتت تتكشف تدريجياً.

المساهمون