الحقيقة العارية في غزّة... النظر في عينَي العدو (2/4)

الحقيقة العارية في غزّة... النظر في عينَي العدو (2/4)

17 فبراير 2024
ماكينـة القتل "الأكثر تطوراً في العالم" تخاف من رجل واحد (إكس)
+ الخط -

لن نبدأ بالعبارة/الكليشيه: "هزّت العالم صورة ابن غزّة العاري على كرسيه الذي يواجهه جنديّ إسرائيلي"؛ إذ سبقتها عشرات بل مئات الصور عن وحشية الاحتلال الإسرائيليّ. يمكن القول إن هذه الصورة "انتشرت" كغيرها من الصور التي تكشف الحقيقة العارية، تلك التي نقرأ عنها في كتاب "نقد العقل الكلبي" لبيتر سلوتردايك؛ إذ يصفها بأنها لا تظهر "من دون كسب أعداء، من دون نزع أقنعة، من دون ظُلمة".
الحقيقة العارية التي تكشفها هذه الصورة شديدة الوضوح، ماكينة القتل "الأكثر تطوراً في العالم" تخاف من رجل واحد في غزّة فيُعرّى، ويكبّل ليحدقّ في عين قاتله المحتمل. والمفارق في هذا المشهد هو ألوان الجدران الصفراء والزرقاء. أين نحن لتكون الألوان هكذا؟ باحة مدرسة؟ غرفة نوم أطفال؟ صورة كهذه، كغيرها من الصور، قسمت العالم، وأكسبت أنصار الحق الفلسطيني أعداء على كل المستويات.
العداوة المرتبطة بالحقيقة العارية تكشف فداحة الحدث نفسه، وشناعته. واستخدام لفظ عداوة هنا شديد الأهمية، خصوصاً أن الأمر يتجاوز ثنائيّة "فلسطيني - إسرائيليّ" و"مُستعمِر - مُستعمَر"، نحو قيمة البشرية نفسها. هناك من يقبل الإبادة الجماعية ويسكت عنها (وأحياناً يحرّض عليها) وهناك من يرفضها كلياً.
هذا الانقسام يعني تهديداً للعديد من المفاهيم التي تحكمنا كبشر. أن نقبل أن يقف جندي مدرّع محمّلاً بالسلاح مهدّداً رجلاً عارياً أعزل، من دون أن يهتز للأخير جفن، يعني أننا أمام اختلاف جذري.
هذا الاختلاف الجذري الذي تكشفه الصورة السابقة كمجاز عن الحقيقة العارية، سببه أننا بإمكاننا أن نتخيل أنفسنا مكان ذاك الرجل العاري، نحن الذين نعلم أن ماكينة القتل يمكن لها أن تصل إلى أوروبا، أو بالأحرى كانت في أوروبا، وانتقلت إلى إسرائيل. القتل بهذه الطريقة، أي بهدف الإبادة، هو بالضبط ما يخلق هذه الخصومة العميقة، القتل بوصفه تكديساً لجماعة من البشر (المواصي في حالة غزّة حالياً) وقتلهم أمام أعين الجميع، وبالبث المباشر والحيّ. لكن، إن كانت هذه "الظلمة" مطلوبة، حسب تعبير سلوتردايك، فما هي حدودها؟ وما الذي ستكشفه بعد 75 عاماً من الاحتلال؟ خصوصاً أن هذه ليست أول صورة لرجل عار أمام جندي إسرائيلي؛ إذ سبقه المئات من العراة، منهم مراسل "العربي الجديد" نفسه، ضياء الكحلوت، الذي أُسر وعُذّب في سجون الاحتلال، قبل أن يخرج منها مُبعداً عن عائلته التي تقطن شمال القطاع، بينما في جنوبه لا يستطيع الوصول إليها.
كشف اللحم وهشاشته أمام ماكينة القتل، يتجاوز الإذلال نحو الإمعان في سيطرة وحشية على هذا الجسد الذي "يقاوم"، ومقاومة هنا مقصود بها الاستمرار بالحياة، الحياة بشكلها الصرف العاري، أمام السلاح. وهنا أمثولة تاريخيّة، لو عُرّي الفلسطيني من كلّ شيء، فإن حياته بحد ذاتها مقاومة، وهنا تظهر الإبادة بوصفها "حلّاً نهائياً". لكن، هذا حلّ لم ينجح في المرة الأولى حين استخدم، ولن ينجح الآن.

حُمّلت الصورة الكثير من المعاني، وصلت إلى حد الشعر كما في كلمات توفيق زياد التي أرفقت معها. لكن: من التقط الصورة؟ كشفت التحقيقات الصحافية أن الصور من هذا النوع يلتقطها الجيش الإسرائيلي نفسه من أجل "رفع المعنويات". استضعاف الفلسطيني إلى هذا الحد يتجاوز تقييد قدرته على القتال أو الدفاع عن النفس، نحو الاستعراض وأخذ وضعية أمام صورة المُستضعف، ذاك الذي تأتي قوته من هشاشته. هذه الوضعية تكشف تفكيرا وقرارا بالتقاط الصورة. هي ليست عفويّة، بل "مُصممة". بالتالي، كيف يقرأها من يؤمن بالانتصار الإسرائيلي؟ كيف يؤول أو "يتلقى" صورة رجل عار، الخوف منه وصل إلى حد تكبيله أمام جندي مدجج بالسلاح؟
الظلمة، إذن، هي ظلمة العقل الإنساني المتعصب بشكل أعمى، ذاك العاجز عن إدراك مكانته نفسها، وعمق العطب الذي يعيشه، إلى حدّ أنه يفشل حتى في فك تشفير الحقيقة العارية، ويسعى إلى "تصميم" صورة مناسبة لها، لا تدين أحداً سواه.

المساهمون