الحقيقة العارية في غزّة... الجمال بوصفه معرفةً حسيّة (3/4)

18 فبراير 2024
الصور التي التقطها الغزيون استُخدمت في المحكمة الدوليّة (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

نقرأ لآرثر شوبنهاور أن الحقيقة العارية هي الأجمل، كلما كان التعبير أبسط كان أعمق. ربما كان آرثر شوبنهاور يحيل هنا إلى اللوحة الشهيرة "الحقيقة تخرج من بئرها"، التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، التي أنجزها الفرنسيّ جان ليون جيروم، لكن لو قمنا بليّ عنق الاقتباس، وسحبه من سياقه نحو ما يحدث الآن في غزّة، ما المقصود بالأجمل؟
لن نطرح السؤال عن الحقيقة، لأن لا جدل حول القاتل والمقتول في غزّة، بل إنه واضح باعتراف "الجميع"، القاتل وضحيته. ولن نخوض بـ"الأجمل" في حديث عن الأشلاء والحرب والأجساد الميتة، بل سنتعامل مع الجمال بوصفه معرفةً حسيّة، يقيناً لا تفسير له، بسيط في ذات الوقت يكشف عطب العالم، أو "وصمة العار المتزايدة"، كما قالت المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أديل خضر: "الوضع في قطاع غزة يشكل وصمة عار متزايدة على ضميرنا الجماعي. إن معدل الوفيات والإصابات بين الأطفال صادم".
الجمال والعار متناقضان في الحديث عن الكرامة الإنسانيّة، تلك التي يمكن القول إننا في مرحلة تجاوزناها، تحفظ كرامة الإنسان صوناً لأجساد الأحياء، تلك الهشة كالتي يخترقها الفولاذ والحديد، خوفاً من انتشار الرعب بين الآمنين. لكن في غزّة، الجميع مهدد بذات المصير، كرامة الجسد الإنسانيّ تتلاشى في مساحة ما بعد الرعب، لكون الجميع مهددين، ونحن المتفرجين، نشارك الـريلز" رعباً وعجزاً. الكرامة الإنسانيّة إذاً تحكمها الخوارزميّة.
الجمال هنا يمكن تلمّسه بتسجيل لطفل يزحف من تحت الأنقاض مبتسماً، بصورة أدقّ، يزحف من تحت ركام بيته الذي قصف، مبتسماً لا فقط لأنه حيّ، بل لأن الأمر أيضاً أشبه بلعبة نجاة، يراها الطفل كأول انتصار. الجمال هنا يثير القشعريرة والابتسامة، نجا الطفل، وعلى رغم كل القتل ما زال حياً، خرج ربما لينفض ركام منزله عن ثيابه، لتبدأ رحلة البحث عن الوالدين.
الحديث التقليديّ عن الكرامة الإنسانيّة هنا تهشّمه الحقيقة العارية، تلك التي ظهرت في العراق، وسورية وغزة الآن، الاتفاق على عدم انتهاك واستعراض الجسد البشريّ لا ينطبق على أولئك السُّمر، أو من تسميهم الدعاية الإسرائيليّة "عرباً"، الكلمة التي تشمل "الجميع" بذات الوصف، لكن هل يعني أن كل من نطق الضاد مهدد بأن ينهار بيته فوق رأسه؟

الجمال إذاً كمعرفة، يتجلى في صورة طفل يعدُ أسماء رفاقه في المدرسة الذين دفنوا في باحتها، يخلق فينا أثراً لا يمكن تفسيره، انبتسم لأنه طفل أم لأنه نجا؟ الأهم ما الذي "يعرفنا" إليه هذا الجمال ولا تستطيع الكلمات الجديّة والأخبار أن تعلمنا إياه؟ ما الحقيقة العارية التي تظهر في صورة غزّي يركض حاملاً قطةً هي الوحيدة التي نجت من أسرته؟
ما نعرفه الآن يقيناً ولا حاجة لتفسيره، أن قيمة الأجساد والأبدان في العالم نسبيّة، والجديد أننا نعرف من المُلام والمساهم في انتهاك كرامتنا. الصور "الجميلة" لأولئك الذين قطعوا طرق تصدير الأسلحة لإسرائيل في موانئ إيطاليا وطرقات كندا موجودة، وبالأسماء، ومن ساهم بالقتل معروف وبالاسم. عُري الحقيقة يكمن بأنها ومن دون مواربة رسخت الاختلاف بين الجلاد والضحيّة بلا جدل، لتصبح علامة الانتماء الآن، واحدة من أقدم العناصر الجماليّة، علم فلسطين وخريطتها، غير ذلك، محط مساءلة.

إن كان صون الكرامة الإنسانيّة يهدف إلى حفظ جميع البشر وعدم عطبهم، ونتاج اتفاق على عدم تكرار المقتلة، أي إنه واجب جماعي، يسقط هذا الواجب في حالة غزّة، "اتفاقية الإبادة الجماعية" اسمها بوضوح، "اتفاقية منع ومعاقبة الإبادة الجماعيّة"، بنودها يجب أن تطبق قبل الإبادة وفي أثنائها، بهدف منعها، لا إدانتها فقط أو الإشارة إليها. "الجميل" في ذلك، أن الصور التي التقطها الضحايا ومشاريع الشهداء أنفسهم هي التي استخدمت في المحكمة الدوليّة، جماليات الموت أصبحت دليلاً لإدانة "العالم"، لا فقط إسرائيل، والكرامة الإنسانيّة سؤال ثانويّ أمام العجز عن إيقاف الإبادة.

المساهمون